العلاقات بين المغرب والجزائر في الموقف الظالم
الموقف الرسمي الجزائري من المغرب مثير للحيرة. ولكن ليس فقط لكل من يراقب العلاقات بين البلدين من الخارج، بل للجزائريين والمغاربة أنفسهم.
الحديث عن الروابط التاريخية بين الشعبين والبلدين لا يكفي. على الأقل لأنه ليس مما يؤخذ بعين الاعتبار بالنسبة إلى مؤسسة السلطة في الجزائر. لا تكفي الجيرة نفسها أيضا. كما لا تكفي المصالح المشتركة. ولا حتى العلاقات الأسرية بين شعبين باتا يجدان نفسيهما أمام حدود مغلقة لسنوات طويلة. فإذا لم تكف صلات الرحم، فما الذي يكفي؟
لم تكن هناك دعوة أكثر صدقا وإلحاحا على رأب الصدع من الدعوة التي وجّهها العاهل المغربي الملك محمد السادس، في خطاب عيد العرش الـ23، لإعادة العلاقات بين البلدين والشعبين إلى طبيعتها. لم يكن هناك أصدق من التأكيدات التي قدمها على الحرص لتنقية هذه العلاقات من كل ما شابها من شوائب.
هناك مصالح. هذا أمر لا شك فيه. صحيح تماما أن للمغرب مصالح في استئناف العلاقات مع الجزائر وتسوية مشكلاتها، وذلك بمقدار ما لدى الجزائر من مصالح. الجغرافيا هي التي تفرضها. لو كانت الجزائر أو المغرب كل في طرف جغرافي آخر، لكان الوضع مختلفا. يمكن قطع العلاقات إلى الأبد، لتهنأ برأس بارد. ولكن للجيرة أحكامها في النهاية. وما لم تُحترم هذه الأحكام، فما الذي سيحترم؟
الدعوة التي أطلقها العاهل المغربي تكتسب طابعا شخصيا أيضا. وهي خاطبت الرئيس الجزائري شخصيا أيضا. بمعنى أنها تضمنت إشارات على التزامات من أعلى مستوى ممكن. كما تضمنت استعدادات لبحث سبل الحل للمشكلات العالقة بين البلدين، على أعلى مستوى ممكن. ما من أحد يمكنه أن يعرض مستوى أعلى أو أفضل، لا الأمين العام للأمم المتحدة، ولا الأمين العام للجامعة العربية، ولا أيّ وساطة دولية أو عربية أخرى. فما لم يُحترم هذا المستوى، فما الذي سوف يُحترم؟
كم هو لائق أن تتوسط الجزائر لدعوة الدول العربية لتطبيع علاقاتها مع الرئيس السوري بشار الأسد، بينما لا تفعل هي نفسها الشيء نفسه مع المغرب؟
ردت الجزائر على الوساطة السعودية التي قام بها وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان بفظاظة غير معهودة، بالنسبة إلى مكانة السعودية في العالم العربي. حتى لكأنها قدمت درسا مسبقا لكل زعيم عربي آخر، لكي لا يحاول.
المغرب يستطيع أن يحصي كم مغربيا قُتل برصاص جزائري. فهل تستطيع الجزائر أن تحصي كم جزائريا قتل برصاص مغربي؟ باستثناء التلفيق، فإنها لن تجد أحدا. فإذا كان الأمر مجرد عناد، فمن هو الأجدر بأن يعاند؟
القطيعة الراهنة ظالمة على كل وجه. والموقف حيالها مهم، لأنه هو ما يقرر مَنْ هو المظلوم ومَنْ هو الظالم.
توجد مشكلة بين البلدين. هذا صحيح أيضا. الجزائر تدعم جبهة بوليساريو التي تطالب بإقامة دولة مستقلة في الصحراء، وتزوّدها بالسلاح لتمارس أعمال الإرهاب ضد مغاربة آخرين. بينما يعتبر المغرب تلك الأرض أرضه، تاريخيا وسكانيا واقتصاديا.
في هذا السجال، لا توجد حقيقة أكثر سطوعا من أن تلك الأرض “المتنازع عليها” ليست أرضا جزائرية. هذا شيء قاطع بالنسبة إلى الجزائر نفسها. وفي النهاية، فإن الجزائر ليست سوى طرف ثالث. المغرب، بهذا المعنى، لم يغمط شيئا من حقوق الجزائر، ولم ينتهك سيادتها على أرضها.
الجزائر نفسها، كما تقتضي القيم والأعراف الدولية، يجب ألا تكون طرفا في النزاع أصلا. يمكن أن تقدم دعما سياسيا لأيّ طرف تشاء. ولكن لا يمكنها أن ترعى أعمالا مسلحة تخاض على أرض الغير. ولكن الجزائر تفعل. وهذا له اسم. إنه يدعى “دولة راعية للإرهاب”. ولكن الأمر لم يبلغ بالمغرب حد إطلاقه. فعل ذلك احتراما للجيرة، التي لم تُحترم من الجانب الآخر.
كان من الأولى بالجزائر أن تقف على الحياد في النزاع، طالما أن الأرض ليست أرضها. وطالما أن الأمر يتعلق بمصالح طرفين متنازعين، “أجنبيين” بالنسبة إليها. تدعم الجزائر بوليساريو سياسيا، أمر ممكن. ولكن يتعين أن تدعم التسوية السلمية أيضا وتعمل من أجلها.
في آخر المطاف، لا يليق بالجزائر أن تنتصر على المغرب في هذا النزاع. وذلك مثلما لا يليق بالمغرب أن ينتصر على الجزائر في أيّ نزاع قد يجد نفسه فيه مجرد “طرف ثالث”.
هل تريد الجزائر أن تفرض الهزيمة على المغرب؟ من ذا الذي يجرؤ على قولٍ كهذا في الجزائر؟ ابحث، لن تجد أحدا. لأنه شيء غير معقول تماما بالنسبة إلى معنى أن تكون الجزائر جزائر والمغرب مغربا. إنهما بلدان بينهما من الروابط ما يجعلهما أخوين، لا مجرد بلدين، أو حكومتين، أو حتى شعبين. وبالمعنى الاجتماعي فلا يوجد إلا القليل الذي يميز بين مغربي وجزائري. من التاريخ، إلى الفولكلور، إلى المطبخ. أي من أعلى سقف الدار إلى أساسه، هم شعب واحد في دولتين.
المغرب إنما ينتصر لنفسه، وعلى نفسه، عندما يتخلى عن المحاسبة على الأذى أو حتى عن الغرور، فيطلب رأب الصدع
ما الذي يبقى من أساس الدارين لو كانت الهزيمة هي المطلوب من هذا الشرخ، في العلاقة بين بلدين راسخين، باقيين في جوار أحدهما الآخر إلى يوم يبعثون؟
المغرب إنما ينتصر لنفسه، وعلى نفسه، عندما يتخلى عن المحاسبة على الأذى أو حتى عن الغرور، فيطلب رأب الصدع.
ولكن الجزائر لم تجرؤ، حتى الآن على الأقل، أن تنتصر لنفسها، ولا على نفسها، بالتخلي عن موقف يعاند كل شيء، ويتصدى بفظاظة لكل محاولات استئناف علاقات الأخوّة بين بلدين وشعبين لا يملكان غيرها في الحقيقة، ولا يليق بهما أن يملكا غيرها أصلا.
فإذا كان كل هذا لا يكفي، فما الذي يكفي؟
كم هو لائق أن تتوسط الجزائر لدعوة الدول العربية لتطبيع علاقاتها مع الرئيس السوري بشار الأسد، بينما لا تفعل هي نفسها الشيء نفسه مع المغرب؟
هل يحتاج الرئيس عبدالمجيد تبون أن يخبره أحد، بما ظل يجري في سوريا من فظائع وجرائم وأعمال تدمير وتهجير جماعي، لكي يرفع على كتفيه ألوية الغفران والتسامح، تلك التي لم يجرؤ على رفعها مع المغرب؟
هناك اسم لهذا السلوك. لا أحد يجرؤ على تسميته باسمه، لكي لا تطال شعرة منه مشاعر جزائري واحد. ولكنه قائم، ومؤذ.
احتراما للجزائر، ومحبة للجزائريين، وحرصا على الروابط الأخوية بين الشعبين، وعلى سقف الدارين وأساسيهما، واقتفاءً حصيفاً للمصالح المتبادلة، وجّه العاهل المغربي دعوته إلى أخيه الرئيس تبون، لرأب الصدع.
المغرب قد ينتظر ردا يكافئ الاحترام بالاحترام، والمحبة بالمحبة، والروابط بالروابط. ولكن كل العرب الآخرين ينتظرون أيضا.
سوف يرون بأم العين، ما إذا كانت الجزائر التي تستضيف قمتهم قريبا، جديرةً بما تدعو له، أم جديرة بما تعاند.
هذا اختبار مهم، لكي تعرف، أيها العربي، من موقعك كطرف ثالث، من هو الظالم.