المغرب وعرش التغيير والإصلاح في ذكراه الـ23

الصراف

خطابات الملك محمد السادس اكتسبت شيئا من إرث الحضور الرفيع المتوارث وتحولت إلى مفاصل للتوجهات العامة والرؤى المستقبلية بل والانتقادات للأداء الحكومي أيضا تجرؤ على المكاشفة وتدفع نحو التغيير

المغرب وعرش التغيير والإصلاح في ذكراه الـ23

آخر ما يمكن قوله هو إن الطريق كان سهلا على العاهل المغربي الملك الشاب محمد السادس ذي الـ32 عاما عندما تولى عرش المغرب في الثلاثين من يوليو العام 1999.

مضى من الرحلة 23 عاما. بدأت بمسار للتغيير والإصلاح، ولم تتوقف، وكأنها معركة لا تنتهي، لأن متغيرات الحياة، وتحدياتها نفسها، معركة لا تنتهي.

لم يكن الملك الراحل الحسن الثاني يتوقع أن يأتي الأمر سهلا. قدم التنبؤ بالصعوبات، على أنها أمنية. فقال في إحدى مقابلاته الشهيرة: “أتمنى ألا يكون عهد خلفي سهلا. فلو كان ذلك كذلك، فهذا يعني أنه لم تعد هناك حاجة إلى الملك”، وكرر العبارة “أتمنى ألا يكون عهده سهلا”.

لم يكن الأمر في حقيقته مجرد أمنية. كان العاهل المغربي الراحل يعرف ما بين يديه، ويعرف ما سيأتي. وكان يدرك حجم العبء وثقله، مما سيترك هو نفسه، ومما يستجد.

المغرب بلد صعب في النهاية، لسببين إضافيين، يتجاوزان المعضلات الاقتصادية المتنوعة التي يواجهها كل بلد في المحيط الإقليمي. الأول، هو حدوده الوطنية التي ظلت موضع تنازع مع الجوار. والثاني، هو متطلبات التغيير، التي لم يكن بوسع الملك الراحل الحسن الثاني أن ينهض بها، ربما لسبب يتعلق بطبيعة شخصيته وإدارته، فتركها لخلفه.

العرش لم يعد مجرد سلطة مغلقة أو معزولة عن مشاغل ومتاعب الناس الراسخ منها والطارئ. أخلاقيات تضامن وارتباطات مباشرة جعلت من الملك محمد السادس واحدا من أقرب ملوك السلالة العلوية إلى شعبه

الإرهاب كان تحديا ثالثا. ولكن خوض المواجهة ضده، سرعان ما قدم المغرب كواحد من أفضل الدول التي تمكنت من اقتلاعه من جذوره، حتى لم يبق منه إلا بعض عشب، لا يُستزرع في يوم حتى يُقتلع في اليوم التالي. ولسوف يثبت أن هذا النجاح يرتبط مباشرة بالصعوبتين السالفتين. نجح الملك محمد السادس فيهما، فنجح في الثالثة.

الإصلاح السياسي والدستوري كان من بين أولى مشاغل العهد الجديد. ولأجل طي صفحة الانتهاكات لحقوق الإنسان، أنشأ “هيئة الإنصاف والمصالحة” للتحقيق وجبر الضرر فيها.

العرش لم يعد مجرد سلطة مغلقة، أو معزولة عن مشاغل ومتاعب الناس، الراسخ منها والطارئ. أخلاقيات تضامن وارتباطات مباشرة جعلت من الملك محمد السادس واحدا من أقرب ملوك السلالة العلوية إلى شعبه. شخصيته المتحررة لعبت دورا مهما في جعل اقترابه من مواطنيه يبدو أمرا طبيعيا. وشبابه نفسه ساعد في أن يكون أقدر على الانفتاح من سواه. أقدر حتى من دائرة مستشاريه، الذين كان عليهم أن يتكيفوا مع حقيقة أنه ملك مختلف.

لكي تثبت الخطوة في الاتجاه الصحيح، فإنها تتطلب تيقنا وإطارا مؤسسيا وضمانات ومراقبة نتائج. والتغيير لكي يتحقق، وفق هذه الاشتراطات، فلا مفر من أنه سيكون بطيئا. حرق المراحل، هو آخر ما يصح، ليس في بلد مثل المغرب فحسب، ولكن في كل بلد.

ما حصل هو أن الملك محمد السادس قدم في عامه الأول ما يعتزم القيام به، وحوله إلى برنامج عمل، وشق الطريق إليه. وعاما بعد آخر، حافظ على مسار متتابع للمضي قدما. فعالج مفاصله مفصلا بعد آخر.

التيقن بدأ من معرفة الصحيح مما أثبتت تجارب التحضر والتقدم الاقتصادي والاجتماعي ضرورته. والإطار المؤسسي بدأ من إعادة هيكلية النظام، من داخل القصر إلى كل مؤسسات الدولة الأخرى. الحريات السياسية والتعددية الحزبية والانتخابات الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة التنفيذية، التي تأطرت في دستور الإصلاح، حوّلت ما اعتبره الملك محمد السادس “مفهوما جديدا للسلطة” إلى منظومة مؤسسية عامرة.

خطابات الملك محمد السادس اكتسبت شيئا من إرث الحضور الرفيع المتوارث وتحولت إلى مفاصل للتوجهات العامة والرؤى المستقبلية بل والانتقادات للأداء الحكومي أيضا تجرؤ على المكاشفة وتدفع نحو التغيير

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، لأنه بحسب الضرورة التي انطلق منها الملك محمد السادس، ليس كافيا، كما لا يوفر ضمانات للاستقرار ما لم يُشفع بأطر تكفل معرفة الواقع، وتكفل تقديم قراءة موضوعية له. فتأسست على هذا الأساس مرجعيات من قبيل “المرصد الوطني للتنمية البشرية” و”المندوبية السامية للتخطيط” و”المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي” و”المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة” و”المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي” و”المجلس الوطني لحقوق الإنسان” ومؤسسة “الوسيط” و”مجلس الجالية المغربية بالخارج” و”الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري” و”مجلس المنافسة” و”الهيئة الوطنية للنزاهة”، وغيرها.

هذه المؤسسات تجرؤ على قول الحقيقة أمام البرلمان. وتقدم تقريرها بقراءة موضوعية للواقع، ما ينزع عن السياسة ثقافة التدليس والمخادعات الأيديولوجية، ويلزم القوى السياسية المتنافسة على الاقتراب من الحقيقة، وعلى التعامل معها بكفاءة واعتدال.

خطابات الملك محمد السادس اكتسبت شيئا من إرث الحضور الرفيع المتوارث، ولكنها تحولت إلى مفاصل للتوجهات العامة، والرؤى المستقبلية، بل والانتقادات للأداء الحكومي أيضا، تجرؤ على المكاشفة، وتدفع نحو التغيير والإصلاح. وليكتشف المغاربة من خلالها أنها ليست جرة قلم تُتخذ في قرار، ولكنها مسار يوازي المسار التنموي نفسه، أو يتقدم عليه بخطوة أو أكثر.

عندما تحدث الملك محمد السادس في العام 2019 عن “فشل النموذج التنموي” فإنما كان ينظر إلى تباطؤ النمو والتردّي في الأوضاع الاجتماعية، وارتفاع معدلات البطالة ولاسيما في صفوف الشباب.

نقد الواقع، والتأسيس لإصلاحه، كانا المعنى من ذلك التحدي الذي وُضع أمام حكومة منتخبة، ولكنها لم تف بالواجب كما يجب، ولم تقرأ الواقع.

قال: “لقد أبان نموذجنا التنموي، خلال السنوات الأخيرة، عن عدم قدرته على تلبية الحاجيات المتزايدة لفئة من المواطنين، وعلى الحد من الفوارق الاجتماعية ومن التفاوتات المجالية، وهو ما دفعنا إلى الدعوة لمراجعته”.

المعركة من أجل تحصين الوحدة الترابية للمملكة قاد الملك محمد السادس شعبه وبلاده فيها من نجاح إلى نجاح

لم تعد التنمية تتوقف على مشاريع كبرى تستثني التنمية الاجتماعية، أو تكرس التفاوتات الصارخة أو تستبعد الجيل الجديد من الطاقات والكفاءات الوطنية الشابة.

المعركة من أجل تحصين الوحدة الترابية للمملكة قاد الملك محمد السادس شعبه وبلاده فيها من نجاح إلى نجاح. اعترافُ العديد من كبرى دول العالم بهذه الوحدة عزلَ الذين يهددونها وجردهم من مبررات العنف والخيارات الانفصالية والتطرف.

أما التغيير، فإنه معركة كل يوم. ولكنه بالدرجة الأولى معركة أسس ومعايير، دستورية وقانونية وأخلاقية، تلاحق التطورات وتواكب المستلزمات بناءً على قراءة نقدية حصيفة، وغير مجاملة للواقع. الملك محمد السادس لا يجامل. ولا يريد لأحد في إدارته الحكومية أن يتجامل مع الحقيقة، فينكر الواقع.

اجتثاث الإرهاب من جذوره كان مكسبا لحقيقتين متلازمتين: الأولى، هي أن الحريات السياسية والفكرية والمساواة وسلطة القانون نزعت أهم أسلحة الإرهاب وأبطلت جاذبيته. والثانية، هي أن المؤسسة الأمنية عرفت كيف تجعل من صرامتها تحمل الوجهين معا: حماية المواطن وضمان حقوقه الدستورية والإنسانية، والضرب بيد من حديد على كل وجه من وجوه العنف والتطرف. حتى أصبح المغاربة هم العين الساهرة؛ عينٌ أسبق من عين المؤسسة الأمنية نفسها.

هذا يحصل لأن مؤسسة العرش لم تعد مؤسسة سلطة متعالية. إنها عرش روابط وانشغالات وثيقة بالشعب بكل فئاته وطبقاته وجهاته، حتى أصبح من الجائز له أن ينظر إلى الملك، ليس كما ينظر إلى حاكم، بل كما ينظر إلى معين وشفيع، بدأ بقيادة التغيير والإصلاح، وعزم على ألّا يتوقف. وكأنها معركة لا تنتهي.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: