منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين شهدت الصحافة المصرية ظهور واختفاء العشرات من الصحف والمجلات العامة والسياسية والاقتصادية والعلمية والدينية المستقلة، والتي كانت تصدرها مؤسسات أو أفراد أو هيئات وجمعيات وجامعات وأحزاب وغيرها مما ينتمي للمجتمع المدني أو القطاع الحكومي الرسمي بعد ثورة الثالث والعشرين من يوليو، هذه الثورة التي لم تبق على الكثير من هذه الصحف والمجلات وطاردت أصحابها إلى أن انتهى الأمر بتأميم الصحافة والسيطرة على كبرى المؤسسات كـ”دار الهلال، الأهرام، الأخبار، روز اليوسف.. الخ”. هذا التأميم الذي شكل المسمار الأول الذي دق في نعش الصحافة المصرية.
بتأميم الصحافة وسيطرة الدولة عليها، تراجعت حرية الرأي والتعبير والفكر النقدي، وقد انعكس ذلك بشكل أساسي على الفكر النقدي السياسي بحثا ورؤية وتحليلا ورصدا ومتابعة، فالنظم السياسية بعد 1952 كان أحد توجهاتها الرئيسة إحكام قبضتها على كل ما يطبع رأيا أو بحثا أو دراسة أو تحليلا أو توعية أو حتى إبداعا يشكل نقدا فكريا، سواء في الصحافة أو دور النشر أو المراكز البحثية في الجامعات أو دوريات الهيئات وغيرها، الأمر الذي أحدث فقرا وتراجعا في الفكر السياسي المصري. بالتأكيد هناك استثناءات أفلتت من هذه القبضة بعد صدام عدد من المفكرين والمثقفين مع نظام جمال عبدالناصر ومن بعده أنور السادات ثم مبارك، قدمت قراءات مهمة لما جرى من تحولات سياسية وفكرية واقتصادية وتاريخية.. أما الآن فإن المشهد ضائع.
اختفت مجلات الطليعة، واليسار، والمنار، وقضايا فكرية، والفكر الاشتراكي، والاشتراكية، والكاتب، والسياسي، وغيرها أيضا من الدوريات التي كانت تصدرها المؤسسات الصحافية والأحزاب خاصة اليسارية منها ومراكز الدراسات والبحوث الخاصة والرسمية التابعة للجامعات والأكاديميات والمعاهد. بل اختفى الرأي الفكري أو السياسي من صفحات الرأي في الصحف والمجلات، حيث لا يمكن إطلاق كلمة “الرأي” أو “النقد” على ما يشبه البيانات الرسمية التي تصدرها مثلا مؤسسة الرئاسة أو وزارات الخارجية والداخلية والعدل والأوقاف والتعليم وغيرها. أما المجلات القائمة كمجلتي “الديمقراطية” و”السياسة الدولية” اللتين تصدرهما مؤسسة الأهرام فهي لا تضع بحوثها ودراساتها النقدية السياسية في مواجهة مع السياسة الخارجية أو الداخلية التي يتبعها النظام، ولا تقدم رؤية تخالف التوجهات السياسية حتى في طرحها للسياسات العربية والدولية والعالمية، وبالنهاية هي مجلات ربع سنوية، ورؤساء تحريرها كغيرهم رؤساء تحرير من اختيار النظام.
سقط سقف الحرية على الرؤوس دون أن يميز رأسا عن رأس، فعدم إتاحة المعلومات أو الاطلاع عليها لا يزال قائما، وإن أتيح منها شيء عبر تصريحات المسؤولين فهو إما مغلوط أو زائف أو يحمل بصمة البيانات الحكومية الرسمية، وعملية البحث عن داخل أروقة ودوائر مؤسسات صناع القرار محفوفة بالمخاطر ولا تؤمن عقباها. الكل خائف والخوف لا يصنع صحافة لا سياسية ولا فكرية تكشف تحليلاتها مجريات الأحداث وما يترتب عليها من ظواهر مجتمعية تعتمل داخل المجتمع ونخبه.
لقد تخلى صناع القرار اليوم في مصر عن الاستعانة بالرأي الآخر النقدي سواء كان هذا الرأي معارضا أو حتى مؤيدا، وأيا كان قدر صاحب الرأي وقيمته الفكرية والسياسية والمعرفية، لقد اكتفوا بما تملك عقولهم، ولسنا في حاجة إلى ضرب الأمثال، فالمشهد غني وثري بما يتيح لأي ناظر، ولو من بعيد، رؤية التخبط الناتج عن هذا التخلي المفزع لقراءة أو سماع الرأي الآخر سواء في شأن خارجي أو داخلي.
إن هذا المشهد شكل أسوارا عازلة بين جمهور الرأي العام (المتلقين) وبين ما تصدره المؤسسات من صحف ومجلات ودوريات، ومن ثم أصبح هذا الجمهور نهبا لإسفاف مذيعي برامج التوك شو وضيوفهم الذين يتوافقون في كل رؤاهم وأفكارهم على اختلافها مع توجهات النظام وقراراته الداخلية والخارجية، فضلا عن الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي من تشويش.
ومع كل ما سبق لا يمكن لأحد أن ينكر أن تاريخ مصر حفل منذ عصر الخديوي إسماعيل وحتى خروج الملك فاروق عام 1952 بانتقاد السلطة الحاكمة وسياسات الحكومات سواء ما تعلق منها بالداخل أو الخارج، وأن هذه الانتقادات كانت تلقى صدى واسعا في أوساط النخب على اختلافها، وأن مصر الآن تملك مفكرين ومثقفين وباحثين ودارسين على قدر عال من الوعي والفكر السياسي، يمكنهم طرح الكثير من الرؤى والأفكار والآراء بما يخدم السياسة المصرية داخليا وخارجيا وتصحيح عثراتها، وذلك في حال وجدت آذان صاغية وحرية في الكتابة ومنابر سواء مجلات سياسية أو صفحات رأي.