مبدئيا لا شيء يدل على أن الخطوات التي يقطعها المغاربة الآن نحو الموريتانيين، أو الوعود التي يطلقها المسؤولون الجزائريون حول تعميق وتطوير العلاقات مع تونس، قد تحتمل أكثر من تأويل. غير أن ما يلفت الانتباه هو أن مثل تلك المبادرات لا تقدم أي حجة أو دليل على أن قطار المغرب الكبير قد وضع مجددا على السكة، بقدر ما أنها تثبت مرة بعد أخرى أن حالة الاستقطاب الداخلي والخارجي في المنطقة، وصلت ذروتها لتتصاعد بنسق أعلى مما كانت عليه في السابق.
ولم يعد سرا أن المجال بات مشرعا ومفتوحا، وعلى كامل المساحة الممتدة من بنغازي إلى نواذيبو أمام الإيرانيين والإسرائيليين بشكل خاص، للتحرك مع هامش كبير للمناورة، فالمنطقة الان تبدو في نظرهما أشبه بمسرح واسع قد يكون مدارا لمنافسة حادة وشرسة بينهما، أو لتفاهم هادئ ومدروس على تقاسم المواقع. والعداء الشديد الذي ما فتئا يظهرانه لبعضهما بعضا، لا يمنعهما الآن من أن يشتركا، وكلما تعلق الأمر بالشمال الافريقي في الشعور بالارتياح والرضا النسبي على الأقل، عما أمكنهما تحقيقه هناك من مكاسب وإنجازات. وما قد يجعل ارتياحهما قائما هو أنه لم يسبق لا لطهران ولا لتل أبيب أيضا أن وصلتا إلى درجة تستطيعان فيها التأثير في مجريات الأحداث في تلك المنطقة، بالطريقة التي يحصل فيها ذلك الآن.
كان غياب الثقة دائما كلمة السر في العلاقات المغاربية، كما أن الحسابات ألقت ظلالها على أي تفكير بعمل مشترك وكانت المحرار الحقيقي لنجاحه أو فشله
وليس مؤكدا أن مفتاح كل واحد منهما للدخول إلى المنطقة كان مختلفا عن الآخر. فالسباق المحموم بين أكبر بلدين مغاربيين على بسط النفوذ والسيطرة الإقليمية منحهما فرصة نادرة لتحقيق جزء من تطلعاتهما. فمع أنه بدا للوهلة الأولى مجرد صراع ثنائي محدود بين الجارتين، إلا أنه سرعان ما اتضح أنه أبعد وأوسع بكثير من أن ينحصر في ذلك وحده. وهنا فإن المعنيين المفترضين بآثار وارتدادات ذلك التوسع هم في المقام الأول جيرانهما. لكن هؤلاء وسواء أرادوا أم لا، فإنهم ساهموا في تكريس سياسة المحاور، التي قسمت المغرب الكبير فعليا إلى محورين كبيرين أحدهما إيراني، والآخر إسرائيلي. لكن إلى ماذا يمكن أن يقود ذلك الاصطفاف؟ وما الذي سيؤدي إليه في منطقة لا يراها كثيرون بعيدة عن السقوط في أي وقت من الأوقات في مستنقع الهزات والاضطرابات والتحولات الدراماتيكية العنيفة؟ عمليا فإن النتيجة الأولى التي تبدو من تحصيل الحاصل هي أن الآمال الضئيلة التي ظلت تراود البعض من حين إلى آخر في أن يجتمع شمل الأقطار المغاربية الخمسة، ويلتقي قادتها ولو على الحد الأدنى من القرارات والمواقف، لم تعد اليوم سوى أضغاث أحلام لم تعد قابلة للتحقق، لكن الأخطر من ذلك هو أن تلك الدول، قطعت شوطا كبيرا في الوصول إلى مرحلة غير مسبوقة وهي مرحلة التطبيع شبه التام مع القطيعة، التي تكرست على مرّ الأعوام والشهور بين المغاربة والجزائريين، بأن صارت تتعايش معها وكأنها معطى ثابت ومسألة عادية وطبيعية، وليست حالة طارئة وشاذة وغير مقبولة بالمرة بكل المقاييس. وقد يقول البعض وما الذي كان بوسعها ان تفعل؟ وهل كان التونسيون واللييبون والموريتانيون مثلا قادرين على أن يؤثروا، أو يغيروا المسار الذي أخذته علاقة الجارتين؟ وهل كان يستطيعون أن يوقفوا التصعيد ويضعوا حدا للعداء والصراع المستحكم بينهما منذ وقت طويل؟ إن بعضا من ذلك التسليم المطلق بعجزهم، والسلبية التي يصورون بها كلما فتح ذلك الملف، كانت بلا شك جزءا من المشكل. فمع أن الأقطار المغاربية الخمسة، واصلت وعلى مدى أكثر من ستين عاما رفع شعارات الأخوة والتضامن والتكامل في ما بينها، إلا أنها استمرت بالمقابل في انتهاج سياسات تضرب وتنسف في العمق تلك الأسس والمبادئ. ولعل واحدا من بين الأسباب التي جعلتها تسقط في مثل تلك الازدواجية ودفعت شعوبها لأن تعيش في نوع من الانفصام غير المفهوم في هويتها وانتمائها، هو أن ذلك الإرث الثقيل من الشكوك والهواجس والمخاوف، الذي خلفه المستعمر وعمل على استبقائه بينها والنفخ فيه باستمرار، جعل كل واحدة منها لا تسعى إلى قطع الخطوة الأولى نحو الأخرى، بل تنتظر منها أو تطلب من باب المزايدة عليها ومحاولة إثبات سوء نيتها، أن تبادر هي للفعل قبلها. لقد كان غياب الثقة دائما كلمة السر في العلاقات المغاربية.. كما ان الحسابات ألقت ظلالها الكثيفة على أي تفكير في أي عمل مشترك في ما بينها وكانت المحرار الحقيقي لنجاحه أو فشله. ولأن العقدة الكبرى في العلاقات الجزائرية المغربية ظلت وعلى مدى أكثر من أربعين عاما هي معضلة الصحراء، فإن بقاءها دون حل نهائي وتوافقي، كما دعت إلى ذلك كل قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، لم يدخل البلدان فقط في صراع دبلوماسي وسياسي واقتصادي وعسكري، استنفد جزءا كبيرا من قواهما وثرواتهما، بل فتح الباب أمام الإيرانيين والإسرائيليين ليدخلوا على خط ذلك النزاع، لكن كل بطريقته. وفي الجزء الأخير من الصورة، فقد مثلت زيارة وزير الحرب الإسرائيلي بني غانتس الأخيرة إلى المغرب في نوفمبر الماضي، منعرجا حقيقيا وحاسما في علاقة الرباط بتل أبيب، لكن قدوم زميله وزير الخارجية يائير لبيد في أغسطس الماضي إلى العاصمة المغربية، وخروجه بتصريح صحافي قال فيه «إننا نتشارك بعض القلق بشأن دور دولة الجزائر في المنطقة، التي باتت أكثر قربا من إيران، وهي تقوم حاليا بحملة ضد قبول إسرائيل في الاتحاد الافريقي بصفة مراقب» كان بمثابة الشرارة التي أطلقت غضب الجزائريين وجعلتهم يسارعون بعدها بأيام قليلة فقط الى قطع علاقاتهم الدبلوماسية مع الرباط، متهمين جيرانهم بالقيام بـ»أعمال عدائية ضدهم» ومشيرين على لسان وزير خارجيتهم إلى أن آخر تلك الاعمال التي وصفوها بالعدائية هي «الاتهامات الباطلة والتهديدات الضمنية التي أطلقها وزير الخارجية الإسرائيلي خلال زيارته الرسمية للمغرب وبحضور نظيره المغربي». ليكون رد تل أبيب هو تصريح دبلوماسي إسرائيلي لوكالة الأنباء الفرنسية بأن «إسرائيل والمغرب هما جزء أساسي من محور عملي وإيجابي قائم في المنطقة بمواجهة محور يسير في الاتجاه المعاكس، يضم إيران والجزائر». وبالنسبة للمغاربة فإن ذلك التقييم ربما كان مقبولا إلى حد ما، فقد سبق لطهران كما يرون أن حاولت لعب ورقة البوليساريو عندما تورط سفيرها في الجزائر في 2018 في «التدريب على حرب العصابات في المدن والإشراف على تسليم أسلحة إلى جبهة البوليساريو» حسب التبريرات التي قدمتها الخارجية المغربية لقرارها في ذلك الوقت قطع علاقاتها الدبلوماسية مع طهران، لكن توسع نطاق المحورين الإسرائيلي والإيراني إلى دول أخرى في المنطقة، وعلى رأسها تونس وموريتانيا، يبقي الأمر مفتوحا على كل الاحتمالات. لكن المؤكد بعدها، أن الدول المغاربية لم تفقد فقط زمام المبادرة، بل صارت وللأسف الشديد ساحة خلفية لتصفية الحسابات الإيرانية الإسرائيلية.