جذور تكوين ثروة “آل آخنوش” مع والدهم أحمد أولحاج أخنوش،لرسم مسار بناء ثروتهم.
La rédaction
“تحولت تافراوت مع مر السنين إلى مدينة صغيرة حمراء مغبرّة “. (من رواية محمد خير الدين: أسطورة وحياة أكَونشيش، 1984، ص. 17.)
من أين الثروة؟!
نحتاج قبل الإجابة عن السؤال المُعَلَّق: «أين الثروة؟!»، الوارد في خطاب العرش لسنة 2014، والموجه في اعتقادنا إلى أطراف في الدولة،الإجابة عن سؤال أعمق؛ هو: «من أين لك هذا؟!»، أو بعبارة أخرى: «من أين جاءت الثروة؟!»، تلك المِلكية الجماعية التي تتركز اليوم في يدأقلية لا تتجاوز نسبتها في أعلى تقدير 5% من مجموع ساكنة البلد، أوليغارشية تتشكل من عدة لوبيات أبرزها اللوبيان الفاسي والسوسي،تتصارع حينا وتتصاهر حينا آخر، لتتناسل من جديد.
وقد حصرنا دراستنا هذه حول «اللوبي السوسي»، الذي تعد عائلة أخنوش أبرز وجوهه في العقود الستة الأخيرة، تتبعنا خلالها مسارأحمد أولحاج أخنوش، ذلك الرجل الغامض الذي حفر اسمه عميقا في سجل « صناعة الثروة بالمغرب».
تافراوت.. وريثة تازروالت
ظلت «دار إليغ» بتازروالت شرقي تزنيت، ولعقود طويلة، المركز التجاري الأكبر بسوس والأطلس الصغير، أو بلاد جزولة (إكَزولن) بحسبالتوصيف التاريخي، كما كانت إحدى أهم قلاع المقاومة ضد الاستبداد المخزني في سوس الأقصى جنوبي المغرب، بزعامة أسرة آل أُهاشمالسملاليين، أهّلها موقعها الحصين جغرافيا من أن تجتذب بحكم إشرافها على موسم (أمكَار) وزاوية سيدي احماد أُموسى؛ القوافلالتجارية الرابطة بين تومبوكتو عاصمة السودان الغربي (مالي والنيجر) وميناء الصويرة، بوابة الجنوب الجديدة التي عوضت ميناء أكاديرمنذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر، والذي ظل طلية القرن الذي يليه في قبضة «تجار السلطان»، أي العائلات اليهودية الكبيرةبالصويرة، والذين كان تجار تازروالت «سماسرتهم» الحذقون.
أحداث كبرى أضرت بتازروالت ومكانتها الاقتصادية والسياسية بالجنوب المغربي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كانأبرزها انهيار تجارة الصويرة في أعقاب الاحتلال الفرنسي لتومبوكتو، والحملات المخزنية المتكررة نحو سوس، واستقرار آل الشيخ ماءالعينين في تزنيت بداية من 1909، ثم الحروب والمجاعات المتكررة التي مرت منها المنطقة في ظل ما سمي “زمن السيبة”، بالإضافة إلىنزيف الهجرة نحو المدن الشمالية.
كانت هجرة الشلوح (قبائل سوس وفق الدراسات الفرنسية)، قد اقتصرت قبل الحرب العالمية الأولى على مدن شمال المغرب والغربالجزائري، حيث امتهن غالبيتهم البِقالة وبعض المهن الموسمية، ومع نهاية الحرب وصلت أعداد هامة منهم إلى باريس ونواحيها للعمل فيالمصانع المختلفة، بل وسُجل وصول أفراد منهم إلى القارة الأمريكية منذ العشرينات من القرن الماضي.
في ظل تلك الأحوال المضطربة، أفل نجم تازروالت ليسطع نجم جارتها تافراوت (الميزاب)، البلدة الجبلية الواقعة على بعد 107 كيلومتراتشرقي تزنيت، سطوع أخذ في التجلي منذ 1937، حين بدأت نقابة السياحة بأكادير تمد اليد إلى المراكز السياحية بالأطلس الصغير وفيمقدمتها تافراوت، الميزاب الذي تدفق منه اللوبي السوس نحو كبريات المدن المغربية ونحو العاصمة الفرنسية باريس.
في تافراوت، ذلك المركز الجبلي البهيج المشيد في وسط دائرة من الجبال الجرانيتية الوردية، والذي يحتضن اليوم ساكنة هي نحو ضعف ماتحتضنه تازروالت وفق إحصاء 2014، بدأت حكايتا أخنوش وأكَونشيش (جذع الشجرة الميتة)، الشخصية التي اختارها الأديب محمد خيرالدين عنوانا لروايته باللغة الفرنسية التي قدمنا بها هذه الدراسة، حكايتان تتداخلان في الزمان والمكان، وتختلفان في الشخوص والعقدةوالأحداث.
أحمد أولحاج.. بائع الوقود بالتقسيط (1932-1943)
أضحت الدار البيضاء منذ الإحتلال الفرنسي لها سنة 1907، القبلة المفضلة لشباب سوس المهاجر بمن فيهم أهل تافراوت، الذين عبَربعضهم التراب المغربي نحو الجارة الجزائر منذ منتصف العشرينات، حيث نافسوا المزابيين في محلات البقالة بوهران، كما وصل أفرادمنهم إلى ضواحي باريس.
ولأن وثائق عهد الحماية الفرنسية بالمغرب، لا تبوح كثيرا بمعطيات حول منطقة سوس، فإن ما سمح به الوقت والجهد من معلومات لم تسعفنافي معرفة الظروف التي غادر فيها أحمد أولحاج في 1932، قريته «أكَرض أوضاض» (كتف الخروف)، البلدة الجبلية الواقعة على بعدكيلومترين جنوبي تافراوت، ووجهته هو الآخر الدار البيضاء، رئة المغرب في العهد الاستعماري.
لم يكن أولحاج يوم هاجر قد جاوز الثالثة والعشرين من عمره (ولد سنة 1909)، حينها كانت آثار الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 1929،قد فعلت فعلتها في المغرب، أما الأطلس الصغير فكان لا زال يبدي مقاومة للاحتلال الفرنسي انطلاقا من كردوس تحت إمرة مربيه ربو بنالشيخ ماء العينين، قبل أن يصدر القرار من باريس بوجوب تصفية آخر معاقل المقاومة المغربية المسلحة مطلع 1934، بغية فتح المجاللاستغلال خيرات المنطقة لتجاوز الكساد الاقتصادي الكبير الذي كانت فرنسا هي الأخرى تئن تحت وطأته.
في الدار البيضاء، سيبدأ أولحاج – وفق بعض الدراسات التي يظهر أنها اعتمدت أساسا على بعض الروايات الشفهية – مشواره الطويلفي عالم المال والسياسة، حيث افتتح بداية محلا لبيع الوقود بالتقسيط، كان يبتاعه من شركة النفط الأمريكية “سوكوني– فاكيوم”، التيستحمل فيما بعد إسم “موبيل”. وفي ظرف قياسي لم يتعد عشر سنوات استطاع أن ينمي ثروته، حيث تمَلّك ست محلات أخرى لتوزيعالوقود بالمدينة، وإن كنا نعتقد أن الظرفية الاقتصادية والسياسية التي كان يمر منها المغرب آنئذ والمتمثلة في آثار الأزمة الاقتصادية العالمية،مجاعة 1937، الأزمة السياسية الناجمة عن ضرب سلطة الاحتلال للحركة الوطنية، اندلاع الحرب العالمية الثانية، لم تكن لتسمح بمثل هذاالتراكم السريع للثروة، خاصة وأن الوقود كان من أكثر المواد فَقْدا في ظل الحرب.
في أكَادير.. الجمع بين المال والسياسة (1943-1952)
في سنة 1943، سينتقل أولحاج للاستقرار بأكادير، المدينة التي استعادت دورها التاريخي كبوابة لسوس والصحراء بعد أن سحبتالبساط من تحت قدمي الصويرة، ومما يثير الاستغراب أن الرجل بمجرد قدومه إلى المدينة، عُين باللجنة البلدية المختلطة حديثة التأسيسبها، وصار من يومها الممثل الأبرز لمسلمي المدينة طيلة فترة مقامه فيها، على اعتبار أن للجماعة اليهودية وفق القانون المنظم للعمل البلدييومئذ ممثلها الخاص في تلك اللجنة، فهل كان هناك من يدعم الوافد الجديد؟!.
كانت أكادير يوم استقر بها أولحاج، قد بدأت للتو تحتضن أولى ورشات تمليح السمك، التي شجعت سلطة الاحتلال إنشاءها في محيطمنطقة أنزا، لسد الخصاص الكبير في الغذاء بفرنسا إبان الحرب، كانت تلك فرصة سانحة لأمثال أولحاج للاستثمار في مدينة صغيرة فيطور التشكل، فقام رفقة شخص آخر يدعى عباس القباج (والد طارق القباج)، بإنشاء ورشة تمليح للسمك بعد أن اقتنيا مركبين صغيرينللصيد الساحلي.
مع نهاية الحرب، بدأ الانتعاش الاقتصادي يدب في أوصال أكادير نتيجة تدفق الرساميل الفرنسية نحوها، وقد سعى الرجلان أثناء ذلك إلىتأسيس شركة للرخام (شركة مراخم سوس)، لكنهما سرعان ما اختلفا لأسباب مادية ربما، مما حذا بأولحاج إلى البحث عن «شريك» جديد. هكذا نجده يتقرب من محيط القصر، ويربط الصلة بالحسن بن يوسف أخ السلطان وخليفته في تزنيت، حيث أهداه عدة أسهم منشركته تلك، التي كانت قد شرعت في تصدير الرخام نحو إيطاليا، ثم دخلا بعد ذلك معا في شراكة مالية، أسسا خلالها رفقة مستثمرينفرنسيين شركة جديدة حملت إسم « الشركة الفرنسية المغربية لمراخم أكادير ».
من جهة أخرى، شارك أولحاج في تأسيس شركات فرنسية–مغربية مشتركة، حيث كان مساهما كبيرا في شركتين مجهولتي الاسم كانتا قيدالتأسيس بالمدينة، تخصصت الأولى في تغليف الفواكه، أما الثانية واسمها « آيت سوس »، فتخصصت في التجارة العامة، وشاركهإدارتها أيضا القباج قبل خلافهما، وكانت أسهمها موزعة بين فرنسيين ومغاربة بالتساوي.
في تلك الآونة، كانت العلاقة بين القصر ونظام الحماية، في بداية “مرحلة القطيعة”، إثر الزيارة التي قام بها السلطان محمد بن يوسف إلىطنجة ما بين 9 و11 أبريل 1947، وإلقائه خطابا طالب فيه علنا ولأول مرة باستقلال المغرب، وهو النداء الذي كان يتماهى ومطالب «حزبالاستقلال»، الذي تمكن في السنة ذاتها، من تأسيس خلاياه الأولى بإقليم أكادير، بإشراف من القباج وأولحاج بعد المصالحة التي جرتبينهما بوساطة من محيط السلطان، وبتوجيه من الفاطمي، باشا تزنيت واليد اليمنى للأمير الحسن خليفة السلطان هناك، مما لا يدع مجالاللشك في أن تأسيس خلية الحزب بأكادير تمت بإشراف من سلطة المخزن بتزنيت.
اتصال أولحاج بالقصر سيتقوى إثر الزيارة التي قام بها على رأس وفد من سوس إلى الرباط لملاقاة السلطان في شهر ماي من ذاتالسنة، بوساطة من ذات الأمير، وقد رجع وفي جيبه أمر بافتتاح “مدرسة تالبرجت”، التي أنشأها الحزب بأكادير في إطار “معركة المدارسالخاصة”، بعد تلكأ السلطات الفرنسية بالمدينة في الاستجابة لطلب افتتاحها، بالرغم من موافقة مندوب التعليم.
وتذكر تقارير للاستخبارات العسكرية الفرنسية، أن أولحاج كان يُنعت في موطنه تافراوت بـ «دكتاتور سوس»، بسبب تصديه لنشاطالأحزاب الأخرى هناك وبالأخص لنشاط حزب الشورى والإستقلال، الذي كان ينشط في مجال قبيلة أيت امريبط المجاورة، كما قاد حملةشرسة ضد الحزب الشيوعي المغربي بالإقليم، ووضع حدا لنشاطه في مركز إنزكان وفي صفوف فلاحي تارودانت، حيث أقسم في أبريل1947، أنه في غضون شهرين لن يبقى شيوعي واحد في الإقليم، مستغلا الإرادتين الداخلية والخارجية في تصفية الشيوعية بالمغرب،فداخليا قامت سلطة الاحتلال بحملة ضد الحزب في ظل ما كانت تشهده فرنسا من صراع سياسي، أما خارجيا فكانت الحرب الباردة بينالاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية قد اندلعت للتو.
هكذا، وفي ظرف وجيز، أصبح حزب الاستقلال القوة السياسية المهيمنة بالإقليم، عمل خلاله على تسجيل الأعضاء المنسحبين من الحزبالشيوعي بإنزكان في لوائحه، وعلى استمالة أغلب التجار بالمدينة وبالقبائل المجاورة رغبا ورهبا، حيث تذكر ذات التقارير؛ أن أولحاج كانيهدد كل من كان يرفض الإنخراط في الحزب، ومن جهة أخرى، دخل والقباج في صراع مرير مع إبراهيم الحيحي، باشا أكادير يومها،بسبب ابتزازه للجميع وانحشاره إلى صف القيادة العسكرية في التضييق على نشاط الحزب بالمدينة، ولم تفلح وساطة القائد بوشعيب، قائدهوارة، في التقريب بين الطرفين، والواقع أن صراع الرجلين والباشا كان انعكاسا للصراع المحتدم وقتئذ بين القصر والإقامة العامة، ذلك أنأولحاج والقباج كانا يتلقيان الدعم من القصر، بينما كان الباشا يجد دعما من المقيم العام الجنرال جوان، دعم سيتوقف وينقلب خصومة بينالطرفين بعد أن انخرط الباشا في صفوف حزب الاستقلال، حيث سيقوم الجنرال بعزله من منصبه مطلع 1950، في سعي منه إلى«تقويض سلطة المخزن»، كما احتج بذلك حزب الاستقلال لدى الأمم المتحدة.
عُوض الحيحي بأحمد بلمدني بن حيون، قائد أيت الصواب، وأحد البشوات الذين وقعوا على وثيقة عزل ونفي السلطان ابن يوسف صيف1953، والذي سيصبح السند القوي لسلطة الاحتلال بالمدينة في ضرب نشاط الحزب، في لحظة بلغ فيه الصدام ذروته بين الإقامة العامةوالقصر، الذي أُجبر حينها على فك ارتباطه بالحزب.
في ظل ذلك الصراع المحتدم، سيتم القبض على كل من أولحاج والقباج وسيسجنان في كَلميم (210 كلم جنوبا) وبعدها في بويزكارن، قبلأن يجري نفى أولحاج نحو موطنه تافراوت.
العودة إلى البيضاء.. من «شركة أفريقيا» إلى «هولدينغ أكوا» (1959-1994)
حينما عاد أولحاج إلى أكادير في الأيام الأولى للاستقلال سنة 1956، وجد تجارته قد انهارت، فقرر الارتحال مجددا نحو الدار البيضاء،ليبدأ من نقطة الصفر. هناك، عاود ممارسة حرفته السابقة، فافتتح بداية محطتين لتوزيع الوقود، قبل أن يؤسس أفريقيا « الشركة المغربيةلتوزيع المحروقات »، بشراكة مع صهره محمد واكريم في 1959، تزامنا مع نشأة «الشركة المغربية–الإيطالية المحدودة للصناعة والتكرير» (سامير).
توسعُ أداء الشركة الوليدة سيبدأ بعد أن تغلبت على مشكل التخزين، حيث امتلكت ثاني أكبر مخزن للبترول بالبلد بداية من 1962، قبل أنتشرع في توسيع نشاطها ليشمل الغاز بداية من 1965، وإذذاك غيرت اسمها إلى «أفريقيا غاز»، ثم جاوزته بعد ذلك إلى توفير زيوتالتشحيم بداية من 1972.
تثير العودة السريعة لأخنوش – اللقب الذي سيحمله أولحاج بعد الإستقلال – إلى عالم المال والأعمال، عبر الشركة الوليدة الكثير منالشكوك مجددا، مما يدفعنا إلى التساؤل: هل ربط الرجل الصلة مجددا بالقصر في «العهد الحسني»؟!
عمل الملك الحسن الثاني (1961-1999)، مبكرا على استكمال «التحرير الاقتصادي » للبلد من قبضة الشركات الأجنبية، فوضع عدةمخططات اقتصادية كان أبرزها المخطط الإقتصادي الخماسي (1973-1977)، الذي تبنى خلاله المغرب سياسة «مغربة» القطاعاتالاقتصادية، التي كان من أهدافها العمل على استرداد الأراضي من الأجانب، ومراجعة شاملة لقانون الاستثمار، مع العمل على تحفيزالمبادرة المحلية الخاصة.
كان قطاع النفط واحدا من القطاعات التي حرصت الدولة على مغربته، بُغية سحب البساط من الشركات الأجنبية التي كانت وقتئذ المزودالرئيسي للسوق المغربية من المحروقات، وفي مقدمتها شركات شال وطوطال وموبيل، وتزامن نداء مغربة القطاع مع خصاص كبير فيالمحروقات بسبب الأزمة البترولية العالمية التي تفاقمت في تلك السنة، إثر اندلاع «حرب رمضان» بين بعض الدول العربية والكيانالصهيوني.
وجد المغرب في الاتحاد السوفياتي ضالته لتجاوز أضرار تلك الأزمة، خاصة وأن العلاقات السوفياتية المغربية قد تحسنت بعد زيارة الحسنالثاني لموسكو في نهاية أكتوبر 1966، بعد توتر استمر ثلاث سنوات بسبب حرب الرمال مع الجزائر سنة 1963، وما تلاها من اختطافالزعيم المهدي بن بركة سنتين بعدها، وقد أثمرت تلك الزيارة عن “مساعدات اقتصادية” في إطار « النفط مقابل الحوامض ».
يومها كان أخنوش قد وطد علاقته بسفير موسكو بالرباط منذ 1962، لذلك حينما تفجرت تلك الأزمة النفطية، قام الحسن الثاني باستدعائهإلى قصره سنة 1974، وكلفه بتموين البلد بحاجياته من المحروقات، بعد أن وضع خزانات الدولة تحت تصرفه، وما هي إلا أسابيع حتىكانت 200 ألف طن من البترول السوفياتي تملأ تلك الخزانات، إثر صفقة وقعها الرجل مع الروس ضمن صفقات أخرى جعلت «أفريقيا» تَتَسيّد قطاع المحروقات بالمغرب إلى يومنا هذا.
واجه المخطط الخماسي معيقات عديدة، كان أبرزها اندلاع حرب الصحراء سنة 1976، بعد أقل من سنة من تنظيم «المسيرة الخضراء»،التي تزعم بعض الروايات أن أخنوش، وبدافع «الحس الوطني»، مون القطارات والشاحنات بالمحروقات مجانا لنقل ثلاثمئة وخمسين ألفمتطوع فيها، كما واجه المخطط معضلة غلاء أسعار النفط في السوق الدولية، في أعقاب اندلاع حرب الخليج الأولى، ما دفع بالمغرب مجدداإلى تبني المخطط الخماسي (1983-1987)، الذي توجه إلى دعم منتوجات الطاقة، وهو المخطط الذي جاء في صالح «أفريقيا غاز»،التي ستحقق خلاله طفرتها التاريخية كما سنبين لاحقا.
في ثنايا تلك المخططات الاقتصادية، ولدت اللوبيات المالية الكبرى بالبلد، والتي لا زالت إلى اليوم تتحكم في مصيره، وفي أرزاق أهله وترسممستقبل أبنائه وأحفاده. وفي ثناياها أيضا، تأسست العديد من «الأحزاب الإدارية» كما كانت تصفها القوى اليسارية التي واجهها القصربشراسة منذ 1965، بسبب موالاتها لهذا الأخير، والتي سعى في تأسيسها رجال مال وأعمال مقربون منه، وفي مقدمة تلك الأحزاب «حزبالعمل» 1974، «التجمع الوطني للأحرار» 1978، «الإتحاد الدستوري» 1983، «الحركة الشعبية» في نسختها الثانية 1986،بالإضافة إلى حزب أخنوش الجديد.
عندما حل الحاج أحمد ثانية بالبيضاء سنة 1959، كان حزب الإستقلال الذي كان بنفسه أحد من مؤسسي خليته بأكادير كما أسلفنا، قدانشطر نصفين، ويبدو أن أخنوش من يومها لم تعد تربطه أي صلة به، فانكب على تنمية تجارته نائيا بنفسه بعيدا عن السياسة، إلى أن ظهرفجأة عشية الانتخابات البرلمانية التي كان مزمعا إجراؤها في شهر أكتوبر 1975، كما أعلن عن ذلك الملك الحسن الثاني في شتنبر 1974،بعد لقائه بعبد الرحيم بوعبيد زعيم الاتحاد الاشتراكي منتصف السنة، قبل أن يقرر تأجيلها سنة كاملة بسبب تفجر قضية الصحراء. يومها،أقدم أخنوش وبعض كبار صناعيي الدار البيضاء من الشخصيات السوسية، على تأسيس «الحزب الليبرالي التقدمي»، الذي أعلن فيبيانه التأسيسي صراحة أنه حزب ملكي ينسجم برنامجه الاقتصادي وتوجهات الحكومة، وأن “أبوابه مفتوحة أمام جميع الطبقاتالاجتماعية”، أملا منه في تجنيد جيل ما بعد الاستقلال في صفوفه.
اتخذ الحزب من «العدالة»، الجريدة الأسبوعية الناطقة باللغة العربية منبرا إعلاميا له، وركز نشاطه في جهة أكادير، حيث انضم إليه العديدمن التجار النفعين بالمنطقة، فظل بذلك حزبا فئويا صغيرا ذو طابع جهوي (سوس)، كما تضرر من ارتباطاته العرقية بهيئات سياسية تعتبراليوم الروافد الرئيسية لـ«التيار الأمازيغي» بتشكيلاته المختلفة، وبالأخص حزبي «العمل» الذي تشكل هو الآخر نهاية 1974، من قبلبعض رموز المقاومة الريفية وفي مقدمتهم إدريس بن محمد عبد الكريم الخطابي، و«الحركة الشعبية» التي شكلت قبائل زيان القاعدة التيتأسست عليها في فبراير 1959، والتي اعتبر حزب أخنوش نسخة جديدة منها، كونهما وظفا معا لضرب حزب الاستقلال، الذي تزامنت وفاةزعيمه علال الفاسي، وتأسيس الحزب الليبرالي التقدمي.
أخفى العداء الذي استحكم بين الأحزاب «الأمازيغية» الثلاث وحزب الاستقلال، صراعا رهيبا بين اللوبيين السوسي والفاسي، فأخنوشالذي كان من رموز الحزب بأكادير كما أسلفنا، صار من ألد أعدائه لاعتبارات اقتصادية وسياسية أكثر منها عرقية، فقد رأينا كيف أنه كانصديقا حميما لعباس القباج ذي الأصول الفاسية منذ 1943، إلا أنه من جهة أخرى، كان شديد الحساسية من نفوذ الفاسيين بسوسوقتئذ، حيث وجدناه في سنة 1947، يقود تجار المدينة للاحتجاج على رئيس البلدية، حين أراد تعيين محتسب من أصول فاسية يدعى عبدالهادي بن حسن مزوار (لا نعرف مدى قرابته من وزير الخارجية الحالي)، مقترحين أن يكون من أبناء المنطقة وعارفا بعادات سوس.
والظاهر أن القصر لم يكن ينظر بعين الرضى للتقارب بين «الحزب السوسي» الذي كان يقوده أخنوش، و«الحزب الريفي»، و«الحزبالزياني»، فأوعز إليه في نهاية السبعينات بالابتعاد عن كل الجمعيات الأمازيغية ذات الميول القومية، فانكب من يومها على تطوير مجموعتهالنفطية.
مر المغرب مطلع الثمانينات من أزمة اقتصادية وسياسية خانقة، كان من تجلياتها توالي سنوات الجفاف، ارتفاع الدين الخارجي، انهيارأسعار الفوسفاط، فرض صندوق النقد الدولي لبرنامج التقويم الهيكلي بداية من 1983، ثم انتفاضة 1984، وغيرها من القضايا التيستدفع الدولة إلى تبني نهج «الخوصصة».
وبخلاف كل التوقعات، فقد حققت «أفريقيا غاز» طفرة هائلة في تلك السنوات، مستفيدة من ارتفاع أسعار النفط بعد اندلاع حرب الخليجالأولى بين العراق وإيران، ففي 1987، أنجزت المجموعة مبيعات بقيمة 1.8 مليار درهم، واستثمرت نحو 117 مليون درهم، وحققت هامشربح يزيد عن 27 مليون درهم، مما مكنها من منافسة كبريات المجموعات الاقتصادية بالبلد حينئذ، مثل «أونا» و«كوكَيسبار» (الهولدينغالملكي)، «سهام»، مولاي علي الكتاني، محمد كريم العمراني.
في مطلع التسعينات، تم تنزيل الخوصصة عمليا حيث صدرت قرارات، كان من بينها تخصيص شركات المحروقات لملاكيها الأصليين، وحينهاستتحول مجموعة أخنوش إلى شركة قابضة (هولدينغ)، حملت إسم «أكوا» (إختصار للحرفين الأولين من لقبَيْ أخنوش وواكريم بالحروفالفرنسية)، تزامنا مع إلغاء « قانون المغربة » في شتنبر 1993، وتأسيس بورصة القيم، أشهرا قليلة قبل رحيل الحاج أحمد أولحاج نفسه.
مضى اليوم، أزيد من عقدين من الزمن على رحيل أخنوش الأب، وقد أضحت «أكوا» من بعده أكبر الشركات القابضة بالمغرب، تمتلك أزيدمن أربعين شركة فاعلة في مجال الطاقة والأعمال والصحافة والعقار والسياحة والإتصال، وبرحيله غابت عنا الكثير من أسرار صناعة الثروةفي مغرب «سنوات الرصاص» (1958-1988)، وحدها الدراسات الأكاديمية المتخصصة يمكنها أن تميط اللثام عن بعض تلك الأسراروالألغاز، وفي انتظار ذلك، تدفعنا الظروف الملتبسة التي رافقت ميلاد أفريقيا وتغوُّلِ أكوا من بعده، إلى التساؤل: هل كانت المجموعتان مِلكاخالصا لأخنوش الأب؟! أم أن الرجل كان فقط يشغل وظيفة “تاجر السلطان”؟!