فخّ وقع فيه اليساريون قبل الإسلاميين.. كيف حوّلت الملكية المغربية رئاسة الحكومة إلى مقبرة للمعارضة؟

La rédaction

لم يكن صعود حزب العدالة والتنمية للحكم، ثم هزيمته المدوية، التجربة الأولى في المغرب، فلقد مرّ أعرق الأحزاب اليسارية بالبلاد بالتجربة ذاتها أو أسوأ، فالملكية تتعامل بذكاء مع المعارضة المغربية، تعطيها الحكم حتى لو على المستوى الشكلي، لتخرج منه أضعف مما كانت عليه سابقًا.

كان المغرب لديه دوماً معارضة قوية نسبياً مقارنة بالعديد من الدول العربية، وقد يكون السبب في ذلك هو أن بعض القوى السياسية الأساسية في المعارضة المغربية تعتبر نفسها شريكة للملكية في نيل استقلال البلاد من فرنسا مثل حزب الاستقلال، وحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي انشق عنه عام 1959 وأصبح اسمه حزب الاتحاد الاشتراكي.

وقد ظلت العلاقة متوترة بين الملكية المغربية وهذه الأحزاب، خاصة الاتحاد الاشتراكي، إلى أن تراجع التوتر باعتراف الأخير بالطريق الدستوري سبيلاً للتغيير، وكذلك بدأت الملكية المغربية تلعب بذكاء لعبة تقوم على تسليم السلطة في أوقات الأزمات للمعارضة، وبالتالي بدلاً من أن تقوم المعارضة المغربية بانتقاد الحكم فإنها ببساطة تتحمل مسؤوليته، إلا أن تمر الأزمات فيعود الوضع إلى ما كان عليه، وهذا ما حدث مع حزب العدالة التي ساهم قيادته للسلطة في تبريد تأثيرات الربيع العربي على المغرب، كما أن هناك تجربة مشابعة لحزب الاتحاد الاشتراكي.

أحزاب المعارضة المغربية في مواجهة أحزاب القصر

يمكن تقسيم الأحزاب المغربية إلى ثلاث كتل وفقاً للسيد ولد أباه:

– الكتلة المتفرعة عن حركة المقاومة الوطنية والمتركزة على “حزب الاستقلال” الذي تأسس عام 1944، وقاد مع الملك الراحل محمد الخامس حركية التحرر الوطني، ومنه تفرع حزب اليسار الكبير “الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية”. ويمكن أن نضيف إليهما “حزب التقدم والاشتراكية” الذي هو الوريث التاريخي للحزب الشيوعي المغربي الذي تشكل عام 1943 وخضع من بعد لمراجعة فكرية وسياسية عميقة.

– الكتلة الليبرالية التي تبلورت في سياق مشروع بناء الدولة وتعزيز مكاسبها التنموية والتحديثية، وتتركز حول “التجمع الوطني للأحرار”، الذي تأسس عام 1978، ليكون حزب الطبقة الوسطى والبورجوازية الوطنية والبيروقراطية العليا. ويمكن أن نضيف إليه “حزب الأصالة والمعاصرة” الذي تأسّس عام 2008 في إطار ديناميكية الإصلاح وتسوية الملفات الحقوقية والعدالة الانتقالية، بحيث يكون إطاراً جامعاً لليسار المعتدل والتيارات الليبرالية الشبابية الجديدة، وهي أحزاب توصف بالمخزنية أو المقربة أو التابعة للقصر.

– الكتلة الأمازيغية التي تتمحور حول حزب “الحركة الشعبية” الذي أسسه سنة 1959 الزعيمان البارزان المحجوبي احرضان، وعبد الكريم الخطيب، ليكون حامل المطالب الثقافية والاجتماعية للريف المغربي.

والأحزاب السابقة هي ما يمكن وصفه بالأحزاب التقليدية في المغرب، ويمكن إضافة كتلة الأحزاب والجماعات الإسلامية، التي تتمثل بشكل أساسي في حزب العدالة والتنمية وجماعة العدل والإحسان، مع ملاحظة وجود فروق كبيرة بينهما، كما يمكن اعتبار أن هناك تقارباً بين العدالة والتنمية وبين الاستقلال باعتبارهما حزبين محافظين.

عبد الرحمن اليوسفي من المنفى إلى رئاسة الحكومة ثم قُبلة على الجبين

تمثل العلاقة الغريبة بين الملك المغربي الراحل الحسن الثاني وبين القيادي الاشتراكي عبد الرحمن اليوسفي نموذجاً واضحاً لسياسات القصر مع المعارضة المغربية.

كان عبد الرحمن اليوسفي أحد مؤسسي حزب الاتحاد الاشتراكي واعتُقل مراراً، وفي عام 1963 رشح الحزب اليوسفي ليكون نائباً عن طنجة، وبحسب مذكراته فقد حاز أغلبية الأصوات، لكن اللجنة المركزية للانتخابات كان لها رأي آخر. واعتقل اليوسفي مع أعضاء آخرين بالحزب بحجة التآمر على أمن الدولة، صدر على بعضهم أحكام بالإعدام، فيما حكم على اليوسفي بالسجن عامين مع وقف التنفيذ. وطبعت المواجهة بين الحزب ونظام الملك الراحل الحسن الثاني التاريخ المغربي الراهن على مدى أربعة عقود، شهدت اضطرابات والعديد من المحاكمات فيما سمي لاحقاً بسنوات الرصاص.

كان لليوسفي دور بارز في قضية اختطاف واختفاء المهدي بن بركة، القيادي بالحزب، التي وقعت أحداثها في باريس عام 1967، والذي اتهم النظام المغربي بتصفيته، ونظراً لهذا الدور نصحه البعض بألا يعود إلى المغرب، فاستمر في فرنسا واهتم إلى جانب قضية التحرير الوطني المغربي بالدفاع عن الفلسطينيين أمام محاكم أوروبا، حسب تقرير لموقع “دويتش فيليه” الألماني.

في عام 1980 أصدر الملك الحسن عفواً عن مجموعة من المعارضين خارح البلاد، كان منهم اليوسفي، ليعود مجدداً إلى المغرب. وتولى “سي عبد الرحمن”، كما يناديه المقربون، قيادة الحزب مطلع التسعينات، ليخوض مفاوضات طويلة مع الملك الراحل الحسن الثاني، أسفرت عن توليه الوزارة الأولى لحكومة “التناوب التوافقي”.

وأصبح السي عبد الرحمن، كما يناديه المقربون، أول معارض في العالم العربي يشارك في السلطة على نحو سلمي حين قاد حكومة ائتلافية بين 1998 و2002، وهي التجربة التي سميت “بالتناوب التوافقي”، وصادفت انتقال الحكم إلى الملك محمد السادس إثر وفاة والده الحسن الثاني في 1999.

وقال عبد الرحمن اليوسفي، إن التجربة السياسية والمؤسسية لحكومة التناوب ﰲ المغرب جعلت من العمل الاجتماعي والتضامني أحد أولوياتها البارزة، وذكر اليوسفي في تقديم لكتاب ألّفه إدريس الكرواي حول مساره، أن حكومته واجهت “إرثا ثقيلاً وصعوبات عدة وإكراهات متنوعة، ورغم ذلك حرصت على وضع إصلاحات اجتماعية كبرى تهم فئات عريضة من مجتمعنا”.

وكان يعول على هذه التجربة لتحقيق انتقال ديمقراطي بالمغرب، نحو نظام أقرب للملكية البرلمانية، يعين فيه الوزير الأول “رئيس الوزراء ” من الحزب الفائز بالانتخابات مع صلاحيات واسعة للحكومة، غير أن الملك محمد السادس اختار تعيين وزير أول آخر هو إدريس جطو، رغم فوز حزب اليوسفي بانتخابات 2002.

وانتقدت قيادة الحزب هذا التعيين باعتباره “خروجاً عن المنهجية الديمقراطية”، لكنها شاركت مع ذلك في حكومة جطو. ووضع اليوسفي بعد ذلك بعام حداً لمسيرته السياسية، معلناً استقالته من الحزب واعتزال الإعلام، فيما اعتبر إدانة منه لفشل تلك التجربة.

وكان اليوسفي يشكو أثناء رئاسته الحكومة ما سمّاه “جيوب مقاومة التغيير”، كما واجه حملة قوية من التيار الإسلامي ضد مشروعه لتحديث مدونة الأسرة وتعزيز حقوق المرأة، فضلاً عن صراعات داخلية أضعفت حزبه.

وفي 2003، أعلن اليوسفي اعتزال السياسة والإعلام، فيما اعتبر إدانة منه لفشل تلك التجربة. وحظي في السنوات الأخيرة بتكريم من الملك محمد السادس الذي دشن في 2016 شارعاً باسمه في طنجة.

وفي عام 2007، أُجريت انتخابات شهدت إقبالاً ضعيفاً تراجعت فيه المعارضة، ولاسيما حزب الاتحاد الاشتراكي، الذي تراجعت منذ ذلك الوقت قوته، لتكون رئاسته للحكومة أشبه بمقبرة له أكثر تأثيراً من سنوات الرصاص.

وفي سنة 2016، دخل اليوسفي المستشفى إثر تردّي حالته الصحية، وفي صورة أثارت تفاعلاً واسعاً، تلخص طبيعة العلاقة بين الملكية المغربية ومعارضيها، ظهر الملك محمد السادس وهو يقبل رأس “الزعيم الوطني الذي سبق أن نفاه”.

وفي الانتخابات الأخيرة، حلّ حزب “الاتحاد الاشتراكي” في المرتبة الرابعة بحصيلة (35).

أسباب فشل أول حكومة يترأسها معارض في العالم العربي

لفت الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي، إدريس لشكر، في ندوة عام 2016 قبل تشكيل حكومة حزب العدالة والتنمية الثانية بقيادة سعد الدين عثماني إلى تشابه أسباب فشل حكومة التناوب التي قادها عبد الرحمن اليوسفي، مع أسباب فشل حكومة عبد الإله بنكيران، مشيراً إلى قلة الصلاحيات.

ودعا لشكر في ذلك الوقت إلى تعديل دستوري، يمكن حكومات دستور 2011، بصلاحيات أوسع وحقيقية، ويبعدها عن مسببات فشل حكومتي عبد الرحمن اليوسفي، وعبد الإله بن كيران، حسب تحليل لشكر.

كما طالب نبيل بن عبدالله أمين عام حزب “التقدم والاشتراكية”، المشارك في الحكومة، في ذلك الوقت، في الندوة ذاتها، بإجراء تعديلات دستورية، تجعل من كل حكومات دستور 2011 حكومات سياسية، ولها صلاحيات واسعة في جميع القطاعات الحيوية.

وضرب بن عبد الله مثالاً بالمجلس الأعلى للتعليم، والمجلس الأعلى للثقافات، اللذين قال عنهما بن عبد الله إن “لهما صلاحيات واسعة لا علاقة للحكومة بها”.

وخلص بن عبدالله، إلى كون الصلاحيات الممنوحة لمؤسسات منشأة خارج الحكومة، تقزم من الأدوار السياسية للحكومة في المجالات الحيوية المطلوبة، وبالتالي يغيب مفهوم “الحكومة السياسية”.

وكان حزب العدالة والتنمية قد تعرض لتجربة تعرف باسم البلوكاج الحكومي عقب فوزه الكبير، في الانتخابات الماضية عام 2016، حيث فشل رئيس الحكومة المكلف في ذلك الوقت عبد الإله بنكيران في تشكيل الحكومة، نتيجة عدم تجاوب الأحزاب معي مساعيه، وهو أمر نُظر له باعتباره نتيجة فيتو ملكي على بنكيران نظراً لتصاعد شعبيته، وانتهى الأمر بنقل مهمة تشكيل الحكومة إلى سعد الدين عثماني، الذي لم يكن يحظى بشعبية كبيرة مثل بنكيران، وقدم تنازلات كبيرة خاصة في موضوع التطبيع وتقنين القنب، وفرنسة التعليم، ويعتقد أن إبعاد بنكيران وسياسة عثماني ساهمت في تدهور وضع حزب العدالة بشكل كبير.

مؤيدو القصر في الحكومة والمعارضة في الوقت ذاته

طريقة القصر في إدارة السياسة المغربية لا تقتصر على السماح بوصول المعارضة المغربية للحكم، حيث تتلقى كل اللوم على إخفاقات حكومة محدودة الصلاحيات، بل أيضاً جعل مؤيديه هم المعارضين في الوقت ذاته.

بما أن المعارضة هي من طبيعة البشر، وفي بلد كالمغرب لديه مشكلات اقتصادية، ولاسيما الفروق بين المناطق والطبقات، فإن أي معارضة إسلامية أو يسارية قد تسبب مشكلات كبيرة.

ولذا خلق القصر معارضته الخاصة، التي تتمثل في حزب الأصالة والمعارضة، الذي يوصف بأنه حزب ليبرالي معارض، بينما كانت الحكومة يقودها حزب إسلامي.

أن تكون المعارضة ليبرالية ومقربة للقصر فإنه أمر يوجه الجدل السياسي لقضايا مثل المحافظة والتحرر والإسلام والعلمانية والعروبة والفرنسة، وهي أمور أقل خطورة من الفروق الاجتماعية بين المناطق والطبقات في المجتمع، ومظالم المهمشين، التي مع ذلك تنفجر رغم كل هذا الأحجيات المحيطة بالسياسة المغربية، مثلما حدث في إقليم الريف عام 2019.

ويقوم حزب الأصالة بشكل كبير بهذه المهمة إضافة إلى أحزاب أخرى.

ومن المعروف أن الأصالة أسّسه فؤاد الهمة، مستشار ملك المغرب السابق، ويوصف بأنه حزب ليبرالي مقرب للقصر، ويمكن وصفه بأنه حزب يُستخدم من قبل القصر للقيام بمهمة المعارضة، وخاصة مواجهة الإسلاميين.

ويقال إنه لن ينضم لحكومة صديق الملك عزيز أخنوش، رئيس التجمع الوطني للأحرار رغم تشابه أيدولوجيتهما، لأن القصر يفضل أن يستمر الأصالة في تأدية دور المعارضة، حسب عبد الحفيظ اليونسي، أستاذ القانون الدستوري في جامعة الحسن الأول (حكومية) في مدينة سطات .

وفي حالة انضمام حزب الاستقلال المعارض العريق للحكومة، وهو احتمال مرجح، فإن هذا سيمنع تشكيل معارضة قوية، تضم الاستقلال مع العدالة والتنمية.

وبالتالي ستصبح المعارضة المغربية مفتتة، لأنها ستضم العدالة الذي خرج منهكاً جراء الانتخابات، والأصالة المعارض، الذي في حقيقته هو حزب مقرب للقصر.

والسؤال هنا هل يكون مصير حزب العدالة والتنمية مماثلاً لحزب الاتحاد الاشتراكي، ويتحول بعد خروجه من رئاسة الحكومة إلى حزب ضعيف لا وزن له على الساحة بعدما كان الاتحاد من أقوى الأحزاب المغربية وأكثرها معارضة للنظام.

وهل تصبح رئاسة الحكومة مقبرة أحزاب المعارضة المغربية أم يحدث العكس، أن تؤدي سيطرة حزبي القصر الكبيرين “التجمع الوطني للأحرار على الحكومة، والأصالة على المعارضة، إلى إفراغ النظام من وجود معارضة حقيقية، وتحميل القصر مسؤولية أخطاء الحكومة بعدما كانت توجه لرئاسة الوزراء ووزراء أحزاب المعارضة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: