وصفها العارفون بسيرتها والمقرّبون من مجالسها بعاشقة تاريخ المغرب وأبرز مصدر إسباني أسهم في التعريف به وكشف خبايا العلاقات الإسبانية – المغربية خاصة في فترة الحماية وما بعدها.
الموت بالنسبة إلى ماريا روسا دي مادارياغا حق والعمر مجرد رقم، فقد عاشت حياتها كما يليق علميا واجتماعيا وإنسانيا، أنيقة الإطلالة ومنطقية الحديث، منصفة في كتابتها التاريخية، كيف لا وقد كانت فلسفتها أن المظهر لا يقل أهمية عن الجوهر.
وقد بعث العاهل المغربي الملك محمد السادس برقية تعزية ومواساة إلى أفراد أسرة دي مادارياغا، قال فيها إنه تلقى ببالغ التأثر وعميق الأسى نبأ وفاة هذه المؤرخة التي كرست أبحاثها للعلاقات بين إسبانيا والمغرب، وأضافت برقية الملك محمد السادس أنه وبوفاة دي مادارياغا، يفقد البحث التاريخي أحد أكثر أصواته موثوقية وأفضلها اطلاعا على الواقع التاريخي للعلاقات المغربية – الإسبانية، لاسيما خلال النصف الأول من القرن العشرين.
البيئة العائلية التي نشأت فيها دي مادارياغا عزّزت تكوينها الأكاديمي والنفسي، فجُلّ أفراد عائلتها كان لهم إلمام كبير بدراسة التاريخ، هي ابنة أخت الشاعر والمهندس والمؤرخ والسياسي والدبلوماسي سلفادور دي مادارياغا، الذي عمل سفيرا لإسبانيا لدى الولايات المتحدة وفرنسا، ونظرا إلى أعماله المتنوعة والعميقة تم ترشيحه لجائزتي نوبل للسلام ونوبل للآداب.
أما هي فقد طورت معرفتها بالمغرب والعالم العربي بشكل عام عندما عملت موظفة لأربع سنوات بمنظمة اليونسكو في باريس، حيث أشرفت على تنسيق مشروع “مساهمة الثقافة العربية في الثقافات الإيبيرية الأميركية عبر شبه الجزيرة الإيبيرية”.
كان لقاؤها بالمؤرخ الإسباني بيير فيلار في السوربون سببا في توجهها للاهتمام بالبحث التاريخي، فقد كانت ترى أنه يجب تجنب استغلال التاريخ كأداة سياسية، مما يؤدي إلى تشويهه أو حتى إعادة اختراعه لملاءمة مصالح أخرى غير البحث عن الحقيقة، ولذلك كرست وقتها وجهدها لتعميق معرفتها ببنية المجتمع المغربي في الريف، أي المنطقة الشمالية، مشروع تاريخي وفكري نتجت عنه كتب أربعة في الموضوع، والتي تعتبر مصدرا لفهم منطقة الريف خلال النصف الأول من القرن العشرين.
منطق التاريخ
ارتبطت أول صرخة لدي مادارياغا عام 1937 في مدريد بأصوات القذائف والرصاص أثناء الحرب الأهلية الإسبانية، تلك الفترة التي فرضت إسبانيا خلالها حمايتها الاستعمارية على المغرب، ومن خفايا الصدف أن المغرب سيكون تخصّصها، لاسيما منطقة الريف التي نالت النصيب الأوفر من فظاعة الحرب وويلاتها.
في رأي دي مادارياغا، كانت مشاركة القوات المغربية خلال الحرب الأهلية في بلادها إلى جانب فرانكو من بين العوامل التي عملت على تأجيج وترسيخ الصورة المتجذرة سلفا في المتخيل الجماعي لدى الشعب الإسباني. بقيت تلك النظرة المرعبة ملتهبة مع مرور الزمن، والتي واكبت المواجهات بين المسيحية والإسلام، بالإضافة إلى الأحداث الحربية المتتالية بعد ذلك في أواسط القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كحرب تطوان ومليلية، ثم حرب الريف.
سطرت أفكارها حول الحرب الأهلية ومشاركة المغاربة فيها في كتابيها “مغاربة فرانكو” و”تدخل القوات الاستعمارية في الحرب”، ففي بعض المناطق مثل أستورياس عمد نظام فرانكو إلى جلب قوات مغربية، حيث كان شبح المورو ما يزال متجذرا في الأذهان وبحدة عبر التاريخ، باعتبار أن المورو هم العدو القديم، وصور الماضي التي عاشها الإسبان وسمعوا عنها من آبائهم وأجدادهم، سوف تتجسد أمامهم من جديد، وهنا المفارقة التي تتحدث عنها المؤرخة الإسبانية، في أن الجيش الذي سحق المقاومة الريفية بزعامة عبدالكريم الخطابي في عشرينات القرن الماضي، كان هو نفسه من جلب الفيالق المغربية إلى إسبانيا سنة 1936.
◙ أبحاثها المعمقة تكشف فيها دي مادارياغا عن تفاصيل دقيقة لاستخدام إسبانيا الغازات السامة في الحرب على الريف شمال المغرب
في العام 2002 كادت أزمة دبلوماسية دامت 9 أيام فقط، حول جزيرة تورة والتي تسمى أيضا جزيرة ليلى، أن تؤدي إلى حرب بين المغرب وإسبانيا، عقب الأزمة التي أشعلتها حكومة خوسي ماريا أثنار آنذاك، إثر دخول جنود مغاربة إليها بهدف الاستعانة بموقعها الاستراتيجي لمراقبة الهجرة السرية وتهريب المخدرات، باعتبار أن المغرب وبقوة القانون والتاريخ كان يمارس سيادته على الجزيرة الصغيرة وغير المأهولة بالسكان والتي تقع على بعد 200 متر من الشاطئ المغربي.
يقول المؤرخ المهتم بتاريخ إسبانيا والمغرب عبدالواحد كميري إن دي مادارياغا استقبلته في تلك الأيام في بيتها بمدريد مع فريق تلفزيوني من القناة الأولى المغربية من أجل إجراء حوار عن مغرب القرن العشرين، ويضيف “أتذكر دفاعها المستميت والعلمي التوثيقي عن قناعاتها. وحين هممنا بتوديعها، قالت باسمة: بكل تأكيد سوف يستدعيني وزير الخارجية ليلفت انتباهي لأنه لن يعجبه كلامي، ولكن ذلك لا يهمني”.
كانت هناك عدة محاولات فاشلة لاحتلال الجزيرة من طرف الإسبان، لكنها اصطدمت بمعارضة إنجلترا، وبفضل اطلاعها على الوثائق، لفتت دي مادارياغا إلى أن محاولة فاشلة لاحتلال الجزيرة من قبل إسبانيا تعود إلى العام 1887 حينما قامت لجنة إسبانية بأعمال في الجزيرة بهدف بناء منارة، وجرى تحديد الأرض التي تم تخصيصها لهذا الغرض بأوتاد، لكن عندما اكتشف المغاربة الأمر عطّلوا الخطة وأزالوا المخاطر.
وبمراجعة المؤرخة الإسبانية لجميع المعاهدات بعناية فائقة بين إسبانيا والمغرب أو بين القوى الأخرى في ما يتعلق بالمغرب كالمعاهدات والاتفاقيات التي تشير إلى المغرب، من المعاهدة الموقعة في الأول من مارس 1799 إلى التاسع والعشرين من ديسمبر 1916، وجدت إشارات ضئيلة إلى الجزيرة، مستنتجة أن إسبانيا لم تمارس أبدا حقوقا سيادية عليها، وأنه على الرغم من عدم ذكر ذلك، فقد كانت جزءًا مما كان يشكل منطقة المحمية الإسبانية منذ عام 1912 فصاعدا، أي أنها تابعة للمملكة المغربية على طول تاريخها.
مستقبل المغرب وإسبانيا
شكلت أزمة تلك الجزيرة منعطفا جديدا في تاريخ العلاقات المغربية – الإسبانية بما تحمله من تعقيدات وإرث استعماري قديم، صدرت معها تصريحات استفزازية من أطراف إسبانية غير منصفة لمنطق التاريخ والجغرافيا، اعتبرت المغرب عدوا استراتيجيا.
انتقلت دي مادارياغا إلى العالم الآخر في وقت تعيش فيه العلاقات بين إسبانيا والمغرب طوراً جديداً من التحولات المتلاحقة بعد أزمة دامت سنة واحدة، فالمغرب في نظر المؤرخة الراحلة “ملاذ الأزمات الإسبانية”.
في مارس الماضي، اعترف رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو شانسيز بالمبادرة المغربية المتمثلة في مشروع الحكم الذاتي في الصحراء المغربية، وبهذا تكون العلاقات الثنائية قد تجاوزت أصعب أزمة سياسية بعد أزمة جزيرة ليلى بداية الألفية الحالية.
◙ دورها الكبير في الدفاع عن تاريخ وحاضر المغرب دفع مهرجان الفيلم الوثائقي بطنجة إلى تكريمها باعتبارها أهم الجسور بين الشرق والغرب
كانت العلاقات الإسبانية – المغربية وحرب الريف موضوع أطروحتها في العام 1988 بباريس، وبجديتها وصرامتها العلمية اعتبرت أنه من “الأساسي” أن تقوم العلاقات بين إسبانيا والمغرب على أسس التفاهم المتبادل والرغبة “المتزايدة” في التعلم كشرط أساسي للتسامح والاحترام اللذين تتطلبهما البلدان المجاورة.
صاحبة “المغرب، هذا المجهول العظيم.. تاريخ موجز للمحمية الإسبانية” المنشور سنة 2013، كانت دوما مثابرة في الاهتمام بالمغرب حضارة وتاريخا، ما جعلها تتجه إلى تعلم اللغة العربية وآدابها حيث نالت فيها دبلوماً من المعهد الوطني الفرنسي للغات والحضارات الشرقية بجامعة “باريس 3” عام 1973، ثم حصلت على الدبلوم العالي في اللغة العربية والحضارة، ورغم كل ما أنجزته، إلا أنها وبتواضعها المعروف كانت تقول إنه لا يزال هناك العديد من الثغرات التي يتعيّن سدّها.
ورغبة منها في توسيع الاهتمام بالعلاقات المغربية – الإسبانية التي يكتنفها الغموض والالتباس في الكثير من القضايا، نسجت علاقات مهنية وإنسانية مع عدد من المثقفين المغاربة والمهتمين بتاريخ العلاقات المغربية – الإسبانية، وفي المقابل وللاعتراف بدورها في الدفاع عن تاريخ وحاضر المغرب تم في العام 2016 تكريمها في مهرجان الفيلم الوثائقي بطنجة باعتبارها أهم الجسور بين الشرق والغرب.
ضد الحرب
الصحافي والباحث المتخصص في العلاقات المغربية – الإسبانية نبيل درويش يروي أنه زارها ذات يوم من عام 2008 ببيتها في مدريد واعتذرت عن وضعية منزلها غير المرتب حيث كانت الوثائق والأوراق تملأ المكان بسبب تحضيرها لكتاب عن الخطابي، قالت له يومها إنه سيتضمن كل ما جمعته من معلومات طيلة خمسين سنة عن شخصيته التي كانت مهووسة بها منذ اليوم الذي سمعت فيه هذا الاسم واستفسرت من أمها عمن يكون، فقالت أمها بعفوية: إنه المورو الذي ذاق الإسبان على يديه “الفلقة”، وهي وسيلة عقابية قديمة بالضرب على باطن القدم بالعصا، معروفة في المغرب.
شاركت دي مادارياغا في كتاب جماعي حول معركة “أنوال” التي هزمت فيها القوات الإسبانية في شهر يوليو 1921، والتي قادها الخطابي، وكبد الإسبان خسائر كبيرة في الأرواح، ما خلق أزمة كبيرة داخل الدوائر السياسية والعسكرية بإسبانيا.
حلّلت الأفكار والمسار السياسي والإنساني لمن تحول من “صديق مورو” إلى زعيم مقاومة الريف ضد الاحتلال الإسباني في المغرب، وسلطت مؤلفة كتاب “عبدالكريم الخطابي.. الكفاح من أجل الاستقلال” الضوء على حياته باعتباره جزءًا لا يتجزأ من تاريخ الريف في الربع الأول من القرن العشرين، إلى جانب مجموعة كاملة من الشخصيات من جميع الفئات من الأعلى إلى الأكثر تواضعًا، من الأعيان والوزراء إلى المشاة والجنود، من المقاتلين الأبطال إلى الفارين والجواسيس والمغامرين.
أكدت أن حرب الريف التي كلفت الآلاف من الأرواح وملايين البيزيتا، كانت فقط لصالح قلة من الذين ارتكبوا جرائم قتل هناك، وأثروا بفضل الأعمال القذرة، مثل السوق السوداء والاختلاس والفساد.
ومن خلال أبحاثها المعمقة، فضحت دي مادارياغا استخدام إسبانيا للغازات السامة في الحرب على الريف شمال المغرب والتي بدأت سنة 1923، شارحة أنه في البداية كانت بواسطة المدفعية، ثم الطائرات لاحقًا، كان الجيش يريدها أن تكون ضخمة من أجل إحداث أكبر قدر ممكن من الضرر المادي والبشري، وكذلك لإضعاف الروح المعنوية لمقاتلي الريف والسكان المدنيين، ولكن بسبب سلسلة كاملة من العوامل، بعضها ذو طبيعة فنية وبعضها الآخر سياسي، قد فشل المخطط.
الغازات المستخدمة كانت الكلوروبيكرين والفوسجين، وقبل كل شيء، الإيبيريت، الأمر الذي تسبب بوقوع العديد من الضحايا ليس فقط بين المقاتلين، ولكن أيضًا بين السكان المدنيين الذين عانوا من آفات تشبه الحروق وبثور على الجلد، وتلف في العين يمكن أن يسبب العمى، وإصابات خطيرة في الجهاز التنفسي تسببت في الوفاة.
◙ معرفتها بالمغرب والعالم العربي تعود إلى عملها بمنظمة اليونسكو حيث أشرفت على تنسيق مشروع “مساهمة الثقافة العربية في الثقافات الإيبيرية الأميركية عبر شبه الجزيرة الإيبيرية”
وعلى عكس ما يعتقده البعض، لم تكن إسبانيا أول دولة تستخدم الغازات السامة في حربها على المقاومة بالريف، قبل ذلك استخدمتها إنجلترا في العراق في الثلث الأول من القرن العشرين، واستخدمتها إيطاليا موسوليني بشكل جماعي في إثيوبيا في الفترة ذاتها.
بالطبع سيكون استنتاجها أن إسبانيا كانت أول دولة تستخدم الطيران، مع تحديد الآثار طويلة المدى المحتملة لمادة الإيبيريت المسرطنة، أكثر صعوبة، لأنه سيتطلب متابعة الأشخاص المتضررين، من أجل تحديد ما إذا كانت المشاكل الصحية التي عانوا منها في ما بعد، بما في ذلك السرطان، كانت نتيجة مباشرة لتلك التفجيرات.
لم تكن دي مادارياغا راضية عن مواكبة هذا الملف الخطير من قبل كثيرين، فقد كانت ترى أن أعضاء الجمعيات التي تنظم الندوات والمؤتمرات حول هذا الموضوع غير مؤهلين للتعامل معه، من ناحية تقديم أدلة موثقة بقوة من مصادر جادة وموثوقة، فبالنسبة إليها العلاقة بين السبب والنتيجة التي تحاول جمعيات الريف المختلفة تأسيسها بين حالات السرطان والقصف بالإيبيريت منذ 90 عاما تفتقر إلى أي أساس علمي.
ومع ذلك، فإنه بعد سنوات عديدة من الصمت والنسيان هناك اعتراف بأن إسبانيا استخدمت الغازات السامة في حرب الريف تنصف الحقيقة التاريخية، وبالنسبة إليها كمؤرخة، ليس الاعتراف العلني ضروريًا فحسب، بل الإدانة مطلوبة أيضًا، إذ أفضل طريقة لإسبانيا لإصلاح الأضرار التي لحقت بشعب الريف اليوم بشكل جماعي هي زيادة المساعدة بشكل كبير لتنمية المنطقة.
كانت هذه المؤرخة صديقة وفية للمغرب، وكثيرا ما قيل عنها إنها تعرف المغرب أكثر من مواطنيه أنفسهم، وبرحيلها انقطعت حلقة هامة من حلقات البحث العلمي التي تأمل الشعوب أن يجري تعويضها بالأجيال الجديدة من الشغوفين بالآخر والمؤمنين بالشراكة بين الثقافات.