قامت سياسة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون على المغالطات والأكاذيب والتستر على فساد بعض وزرائه والعاملين معه، حتى أن بريكست كان في حد ذاته اتفاقا بني على الأكاذيب والوعود الواهية، التي باتت تتكشف واحدة تلو الأخرى وهوت بحكومة جونسون وعجلت برحيلها.
تعاني بريطانيا من حالة فوضى كبيرة منذ أن خرجت من الاتحاد الأوروبي أو ما يعرف بالبريكست والذي بدأ منذ آخر يوم في العام الماضي. وتأتي أزمة الاستقالات التي زعزعت حكومة بوريس جونسون تتمة لها.
ودفعت هذه الاستقالات المتوالية رئيس الوزراء البريطاني الخميس إلى إعلان استقالته من منصبه كزعيم لحزب المحافظين في بريطانيا، لكنه أوضح أنه يعتزم الاستمرار في منصبه كرئيس للحكومة إلى أن يتم انتخاب خليفة له. وذلك بعد نحو ثلاثة أعوام على انتخابه لهذا المنصب من جانب حزبه.
يقول محللون إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قام على عمارة أكاذيب ومبالغات ومعلومات غير صحيحة، أقنعت أكثر بقليل من نصف الناخبين، في استفتاء العام 2016، بأنه سبيل للازدهار وامتلاك المصير وتوقيع اتفاقات تجارية مستقلة لا تخضع لرقابة الشركاء الأوروبيين أو موافقتهم.
وأحد أهم الوعود، كان التوصل إلى اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة، لكنه لم يتحقق حتى الآن. فبعد نحو ثلاث سنوات من المفاوضات العسيرة حول تنظيم آليات الخروج، فقد بدا الوعد بتوقيع اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة وكأنه خدعة من جانب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
وانساق الشعبيون البريطانيون، وفي مقدمتهم جونسون، وراء الخدعة، ولم يجنوا منها شيئا، لا في عهد ترامب، ولا في عهد جو بايدن، الذي أمضى نحو نصف ولايته حتى الآن. وفي خضم المساجلات الجديدة حول مصير “اتفاق الجمعة العظيمة” في أيرلندا الشمالية، من غير المتوقع لهذا الاتفاق التجاري أن يصل إلى النهاية التي نشدها الشعبيون. فقد رحل ملهمهم عن البيت الأبيض، وتحولت الوعود إلى أحلام يقظة.
وكان بوريس جونسون حقق فوزا ساحقا في الانتخابات العامة التي جرت في ديسمبر 2019، حيث فاز المحافظون بـ365 مقعدا في البرلمان، من مجموع 650، بينما انحدرت مقاعد حزب العمال، أكبر أحزاب المعارضة، إلى 202 مقعد. ويعود جانب كبير من هذا الفوز إلى شخصية جونسون، ليس في شقها الشعبوي فحسب، وإنما بسبب قدرته على استخدام مواهبه في تزييف الحقائق، وتقديمها على أنها يقين لا جدال فيه.
واستقطب جونسون حلفاء وموالين شخصيين من داخل حزب المحافظين، ولم يتردد في إبعاد كل الشخصيات التي عارضته أو شكلت تحديا له. فبعد الإطاحة بقيادة تيريزا ماي في يوليو 2019، قام بإقالة 11 وزيرا من الحكومة فوق ستة آخرين قدموا استقالاتهم، ما دفع الصحافة البريطانية إلى وصف “المجزرة” بأنها “ليلة السكاكين الطويلة”، لأن تاريخ الحكومات البريطانية لم يشهد لها مثيلا قط. وكان هناك، طبعا، عشرات الآخرين من الصف الوزاري الثاني. ولكي تستوعب حكومته المزيد من الموالين فقد أضاف إليها أربع وزارات جديدة، ومنها واحدة له.
الولاء الشخصي
وكان الولاء الشخصي هو الرهان الأساسي لجونسون في التعامل مع وزرائه. وبناء عليه، فقد كان يمكن التغاضي عن خطاياهم، ولأن خطاياه هو نفسه مكشوفة لهم أيضا. وعلى سبيل المثال، فعندما اتهمت وزيرة الداخلية بريتي باتيل بالتنمر على كبار المسؤولين في الوزارة، فقد اكتفى منها بتقديم اعتذار فضفاض بينما كانت الأصول تستوجب إقالتها، لاسيما وأن التنمر دفع بعض كبار المسؤولين في الوزارة إلى الاستقالة.
وعلى الرغم من أن باتيل حولت وزارتها إلى فوضى شاملة، وفشلت في إدارة ملف المهاجرين، إلا أن جونسون ظل يقف إلى جانبها، حتى عندما خرجت بخطة كانت بمثابة فضيحة أخلاقية، بالسعي لترحيل المهاجرين إلى رواندا. الشيء نفسه تكرر مع الاتهامات التي وجهت إلى كريس بنتشر وزير الخدمة المدنية في وزارة الخارجية، بسوء السلوك الجنسي. فعلى الرغم من أن جونسون كان يعرف هذه الاتهامات منذ العام 2019، إلا أنه منحه الوزارة، وأنكر أنه كان يعرف شيئا عنها.
وهذه القضية هي ما يقف الآن وراء حملة الاستقالات والدعوات لجونسون بالاستقالة، فبعد أن نجا من فضيحة الحفلات داخل مقره الحكومي خلال أسابيع الإغلاق العام، ومن بعدها التصويت بحجب الثقة عنه، لم يعد ممكنا بالنسبة لنواب الحزب ووزرائه تحمل التعايش مع المزيد من الأكاذيب.
ويشير المحللون إلى أن هذه الأكاذيب هي القشة التي كسرت ظهر البعير. أما الحجر الأثقل على ظهر البعير، فهو الهزائم التي تعرض المحافظون في الانتخابات البلدية في مايو الماضي، وخسروا خلالها 500 مقعد بلدي في مختلف أرجاء البلاد، كما خسروا قيادة 11 مجلسا بلديا، بما فيها مجلس بلدية “ويست منيتسر” في قلب العاصمة حيث توجد مقرات البرلمان والوزارات ورئيس الحكومة.
◙ الولاء الشخصي هو الرهان الأساسي لجونسون في التعامل مع وزرائه، وبناء عليه فقد كان يمكن التغاضي عن خطاياهم ولأن خطاياه هو نفسه مكشوفة لهم أيضا
وزادت خسارة المحافظين لمقعدي مدينتي “ويكفيلد” و”تيفرتون أند هونيتون” في يونيو الماضي، من مشاعر اليقين بأن جونسون لم يعد هو الشخص الذي يمكنه قيادة حزب المحافظين في الانتخابات المقبلة المقررة في العام 2024. ولا حتى قيادتهم إلى نهاية هذا العام.
كل هذه المعلومات تبدو مجرد جزئيات وتفاصيل على الحقيقة الأهم. وهي أن ما بدأ بالبريكست على أساس عمارة منسقة من الأكاذيب والمعلومات غير الصحيحة، أصبح جزءا من طبيعة الإدارة العامة للبلاد. وذلك بسبب الطبيعة الشخصية لرئيس الوزراء نفسه، تلك التي لا تقيم علاقة حسن جوار مع الحقيقة. هذه الطبيعة لم تكن شيئا غامضا. فقد أدين جونسون في يوليو 2018 بخرق القانون الوزاري عندما فشل في الإعلان عن دخله من العقد الذي وقعه مع صحيفة تيليغراف لكتابة المقالات.
وأثيرت الكثير من الشبهات حول تمويلات أسفاره الشخصية. وكذلك عن حملات جمع التبرعات، وتعرض جونسون بسببها إلى مواجهة ثلاث اتهامات بسوء السلوك الجنائي خلال توليه مناصب عامة، ولأنه كذب على الناخبين حول ما تسدده بريطانيا من أموال للاتحاد الأوروبي، وغيرها من الفضائح “الصغيرة” الأخرى من قبيل اعترافه بأنه كان يدخن الحشيش ويستخدم الكوكايين خلال سنواته في الجامعة، والسعي للعثور على وظيفة مدفوعة الأجر لزوجته الأخيرة. وهي الزوجة الرابعة، بعد طلاق وأبناء من علاقات جانبية.
ولم تنته فوضى البريكست التي بدأت منذ العام 2016 حتى الآن. وأحد أحدث الأزمات الناجمة عنها هو تعطيل تشكيل الحكومة في أيرلندا الشمالية بسبب معارضة الحزب الوحدوي الديمقراطي لبقاء برتوكول الجمارك الذي يفصل المقاطعة عن باقي أجزاء بريطانيا.
واتخذ “الوحدويون” من هذه القضية ذريعة لتعطيل تشكل حكومة المقاطعة، وذلك بعد فوز حزب “شين فين” بأغلبية في مقاعد البرلمان تؤهله لقيادة الحكومة للمرة الأولى منذ توقيع “اتفاق الجمعة العظيمة” في العام 1998، الذي يقضي، أولا، بإقامة حكومة شراكة في طرفي النزاع، البروتستانت الموالين لبريطانيا والكاثوليك الموالين لأيرلندا. وثانيا، ببقاء الحدود مفتوحة بين الأيرلنديتين.
بلد يديره الكذب
وعندما خرجت بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، فإن إعادة نصب حواجز حدودية بين الأيرلنديتين، كان يعد خرقا للاتفاق الذي أوقف حربا أهلية دامت لأكثر من ثلاثين عاما. وعلى سبيل التسوية المؤقتة مع الاتحاد الأوروبي، فقد أقيمت “حدود” في البحر للفصل بين الواردات التي تأتي من بريطانيا إلى أيرلندا الشمالية عن تلك التي تأتي من الاتحاد الأوروبي إلى أيرلندا. وظل “الوحدويون” يرون هذه “الحدود” فاصلا يفصلهم عن بريطانيا، ويطالبون بإلغاء البروتوكول الخاص بها.
ويعدّ “اتفاق الجمعة العظيمة” مهما بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، لأنه يتصل بحدود دولة عضو فيه. كما أنه مهم للولايات المتحدة لأنها هي التي رعت الاتفاق. وكان الرئيس بيل كلينتون، في ذلك الوقت، شارك شخصيا في المفاوضات حول تقاسم السلطة بين طرفي النزاع المؤيدين لبقاء الوحدة مع بريطانيا ومنافسيهم المؤيدين للوحدة الأيرلندية.
◙ الطبائع الشخصية لجونسون ليست هي التي تعيد إحياء ملف بريكست. ولكن ما نشأ عنه من أزمات قول إن ما قام على أساس فاسد ما كان بوسعه أن يرسي لوضع مستقر
كما أن تقدم “شين فين” في الانتخابات، وهو “الجناح السياسي” السابق للجيش الجمهوري الأيرلندي، بعث برعشة قشعريرة في نفوس الموالين للتاج البريطاني، تقول بأن مستقبل المقاطعة سائر في الاتجاه نحو عودة الوحدة بين الأيرلنديتين. والكل يعرف أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو الذي قلب معادلة التوازنات السياسية داخل المقاطعة، وهو الذي نكأ جراح التقسيم من جديد بعد أن ظن مؤيدو البقاء في الاتحاد الأوروبي أنها شفيت بفتح الحدود بين الأيرلنديتين.
وجددت انتخابات مايو 2021 الثقة بالمدافعين عن استقلال أسكتلندا، وشجعت رئيسة وزرائها نيكولا ستارغن على المطالبة بإجراء استفتاء جديد على الاستقلال. بريكست، هنا أيضا، هو الأساس الذي يدفع المزيد من الأسكتلنديين إلى تأييد الانفصال عن بريطانيا، لاسيما وأن أغلبيتهم (62 في المئة) صوتت لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي، في الاستفتاء الذي قاده جونسون وحفنة الشعبويين واليمين المتطرف الذين سيطروا على حزب المحافظين. وما يزال بريكست عبئا ضاغطا على الذين رفضوه (48.5 في المئة)، وعلى الذين اكتشفوا الحقيقة من بعده.
ويرى المحللون أن الطبائع الشخصية لرئيس الوزراء البريطاني ليست هي التي تعيد إحياء ملف الخروج. ولكن ما نشأ عنه من أزمات، والفشل في حلها، وإحباطات الوعود التي ارتبطت به، هي التي تقول إن ما قام على أساس فاسد، شخصيا كان أو غير ذلك، ما كان بوسعه أن يرسي أساسا لوضع مستقر.
بل يمكن أن يظهر شيء ما في الطريق، يؤدي إلى انهيار عمارة الأكاذيب على رأس صاحبها. وها هي تنهار الآن بالفعل، إذ يواجه جونسون ضغطا هائلا منذ أيام، حيث استقال الكثير من أعضاء مجلس الوزراء والعشرات من موظفي الحكومة من مناصبهم. بينما طالب الغالبية بضرورة استقالة رئيس الوزراء الذي أعلن موافقته على أن عملية اختيار زعيم جديد للحزب يجب أن تبدأ الآن.