الجزائر تمشي على خطى المغرب لمحاولة الضغط على إسبانيا

بوشعيب البازي

أسال التوتر الدبلوماسي بين الجزائر وإسبانيا حبرا كثيرا. بين مَن رأى أن الحدّة الجزائرية لم تكن ضرورية وأنها ستضر بمصالح الجزائرمثلما تضر بإسبانيا،
سأضع جانبا حقيقة أن هذا التشدد نابع أيضا من خلفية التوتر الحاد والمزمن مع المغرب والذي بات أحد محددات عمل الدبلوماسية الجزائرية.
تحاول الجزائر اليوم الخروج من صدمة إعتراف اسبانيا بمغربية الصحراء و الشعور بالسعادة والرضى الداخلي بقطع معاهدة الصداقة بينها و بين مدريد، حتى وإن لم يُعِد مدريد عن اعترافها بالحكم الذاتي في الصحراء المغربية.
محاولة الجزائر الضغط على إسبانيا بتعطيل  معاهدة الصداقة والمعاملات التجارية معها، لا تساوي لا من قريب و لا من بعيد صدمة الجزائر في  مارس الماضي غداة إعلان الحكومة الإسبانية موقفها من موضوع الحكم الذاتي. هناك فرق شكلي قد يستحق التنويه إليه، هو أن الجزائر فوجئت بالتحوّل الإسباني بينما كان على مدريد أن تتوقع الرد الوحيد و الضعيف الجزائري  بعد إشارات غضب استمرت عدة أسابيع.
مهما قيل عن تراجع الدبلوماسية الجزائرية في السنوات الأخيرة، تستحق الأزمة مع إسبانيا أن يُنظر إليها على أنها محطة لافتة من سخافة جنرالات المرادية ستحفظ في تاريخ علاقات البلدين ودول الجوار.
تصرف الحكومة الجزائرية لم يفاجىء المتتبعين للشأن المغاربي و ليس وليد صدفة، بل يحتاج إلى إدراجه ضمن تطورات قريبة وبعيدة تحكمت في العمل الدبلوماسي والعلاقات الدولية خلال العقدين الماضيين. يمكن تفسير الغباء الجزائري بأنه جزء من توجه دبلوماسي جديد مدفوع بمعطيَين اثنين: وصول عبد المجيد تبون إلى الرئاسة و تحكم شنقريحة بزمام الامور للبلاد و العزلة التي يواجهها النظام الجزائري عربيا و دوليا.
يروج تبون لمقولته ان الجزائر ستستعيد مكانتها الدولية و تأثيرها في صناعة القرار الإقليمي و مؤكد أن تبون ترك بصمته بالغباء الديبلوماسي و انحطاطه بخرجاته البهلوانية في كل من تركيا و إيطاليا.

(الكلام ذاته تردد بقوة عند وصول بوتفليقة إلىالحكم في 1999 بعد سنوات عجاف كادت الجزائر أن تُمحى خلالها من الخارطة الدبلوماسية. لكن سرعان ما اتضح أن المخلوع كان مسكونا بنرجسيته وحبه لذاته أكثر من أيِّ شيء آخر).
الشهور التي تلت تولي تبون الرئاسة أعقبتها محاولات محتشمة لوضع الجزائر مجددا على خارطة دبلوماسية المنطقة، فكان الصراع في ليبيا مربع البداية. لكن المحاولات لم تثمر لأنها كانت محتشمة ومرتبكة تقريبا، إضافة إلى أن مياها كثيرة كانت قد جرت تحت الجسور في غياب الجزائر، ولم يكن من السهل ترميم الأضرار واستدراك ما فات.
احتاج الأمر إلى تصعيد وصرامة أكبر تجلَّيَا في التخلي عن حياد أصبح عبئا، واتخاذ موقف أكثر جرأة من الحرب الأهلية في ليبيا، منحاز لطرابلس بوضوح.
تجلى الغباء الجزائري أيضا في تدخل تبون في روما في الوضع في تونس مع الرئيس الإيطالي واتفاقهما على «وجوب مساعدتها على تجاوز أزمتها». خروج آخر عن الأعراف الديبلوماسية ، وتطور في الموقف من بلد هو الأقرب إلى الجزائر على الإطلاق.

التفسير الآخر الذي يجب أن يُساق في محاولة فهم الموقف الجزائري من إسبانيا، يتمثل في التحولات العميقة التي شهدتها العلاقات الدولية في العقدين الماضيين. أبرز عناوين هذه التحولات أن الدول «الصغرى»، في مقدمتها دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لم تعد تخشى القوى الكبرى، وامتلكت شجاعة خوض المواجهة معها. مواقف وتطورات لم تكن بمثل هذا الانتشار قبل عقدين أو ثلاثة. مثلا: إيران تخوض صراعا طويلا ومريرا مع نصف الكرة الأرضية الشمالي بلا خوف أو كلل. ولي عهد السعودية، الأمير محمد بن سلمان، رفض الرد على اتصالات الرئيس بايدن، وفرضَ شروطا لتسوية العلاقة معه. القذافي مارس مثل هذه اللعبة ونجح في العديد من المرات. الإمارات تضغط على الدول الغربية حتى داخل أراضيها وفي شؤونها الخاصة. عبد الفتاح السيسي ابتز إيطاليا، ونجح، في موضوع الطالب جوليو ريجيني فكان أنَّ روما دفنت قضيته قبل القاهرة. المغرب لوى ذراع إسبانيا بإغلاق الحدود البرية بين البلدين و محاصرة سبتة ومليلية المحتلتين . ألمانيا تتمرد عن تقاليدها وتخصص تمويلا غير مسبوق للتسلح. الدول الإسكندنافية فقدت الشعور بالأمان في حيادها المسالم. اليابان أصبحت أكثرحضورا في بؤر التوتر عبر العالم. دول الاتحاد السوفييتي السابق ستدفع الغالي والنفيس لتأمن ما تراه شرا يضمره لها الجار الأكبر.
هناك نقاط ضعف فرضت على الحكومات الغربية هذه «التنازلات». الإرهاب، الهجرة والاقتصاد بتفرعاته (طاقة، صفقات، أسلحة.. إلخ). المفارقة أن كل دولة عربية أو إفريقية تمتلك على الأقل ورقة من هذه الأوراق الثلاث تضغط بها لتحقيق مآرب من الغرب أو شراء صمته. ولحسن حظ دول الجنوب أن هذا الغرب يخشى الإرهاب وترعبه الهجرة وأنهكته المتاعب الاقتصادية الداخلية، بسبب انعكاسات هذه الخلطة على اتجاهات الناخبين ومزاج دافعي الضرائب.
أيضا، يعيش الغرب، وللأسباب ذاتها، خلافات تُقسّم صفوفه ككتلة تبدو من الخارج متجانسة ومتحدة. المجر ودول أخرى ترفض إلى اليوم مجاراة الاتحاد الأوروبي في حربه الاقتصادية على روسيا. فرنسا وألمانيا غازلتا مصر لتعويض صفقات إيطالية عندما اشتدت أزمة جوليو ريجيني. بريطانيا وأمريكا وأستراليا «ذبحت» فرنسا في صفقة الغواصات النووية المعروفة بـ»أوكوص» صيف 2021 بعد ساعات من اتصالات بين كبار قادة البلدان الأربع.. وهناك حالات مشابهة وستكون.
بردِّها على إسبانيا تحاول الجزائر الالتحاق بنادي الضاغطين. لكن خطوتها لم تكن سلسة تماما، إذ أن بيان المقاطعة التجارية لإسبانيا صدر عن جمعية مغمورة تمثل المصارف وليس عن جهة حكومية رسمية. ثم تلاه نصف تراجع يفيد أن العلاقات التجارية لن تتأثر. (لكن) الأخرى هي أن الفرق بين الجزائر والآخرين، أن دولا مثل السعودية والإمارات ومصر تنتمي أصلا إلى المحفل الغربي، بقيادة الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل. الجزائر دخيلة على هذا المحفل وفي الوقت ذاته تحاول أن تُبعد عن نفسها شبهة الانتماء للمحور الروسي.
كل هذا يجعل من التوجه الجزائري الجديد، إذا ما استمر، مغامرة قد تكون مكلفة يجب الاستعداد لعواقبها المحتملة، قريبة المدى والبعيدة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: