قبل أن يترشح لرئاسة البلاد ويصل إلى منصة الحكم في قصر قرطاج كان الأستاذ الجامعي في القانون الدستوري قيس سعيد لا يتردد في التعبير عن موقفه الرافض للفصل الأول من دستور عام 1959 والذي تم الإبقاء عليه في دستور عام 2014، وهو ينصّ على أن “تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها”، مع ترميز واضح على الفقرة المشيرة إلى أن الإسلام دين الدولة.
ومنذ أيام قال الصادق بلعيد منسق الهيئة الوطنية الاستشارية لإعداد دستور “الجمهورية الجديدة” في تونس إنه سيعرض على الرئيس سعيّد مسودة دستور لن تتضمن ذكرا للإسلام دينا للدولة.
ويرى مراقبون محليون أن هذا التوجه يعكس وجهة نظر راسخة لدى الرئيس قيس سعيد، وربما اتفق فيها معه العميد الصادق بلعيد وعدد آخر من خبراء القانون الدستوري، وكذلك من الفاعلين السياسيين، لكن المؤكد أن الأمر سيدفع نحو سجال حاد بين النخب السياسية والثقافية وفي مختلف الأوساط الإجتماعية، ولاسيما أن قضية التنصيص على الهوية في الدستور تعتبر من القضايا الخلافية سواء في تونس أو في أغلب البلدان العربية والإسلامية، كما أنها تمثّل واحدة من أهم أدوات الإسلام السياسي في العبث بالرأي العام وتحريض الشارع ضد السلطات القائمة في حال محاولة تجاهلها أو التخلي عنها.
استبعاد التنصيص على دين الدولة قد يوحي بأن تونس تتجه لتكون دولة علمانية، وهو أمر لا علاقة له بالواقع
وكان الرئيس سعيد قد انتقد في أبريل الماضي من يتشبثون بالفصل الأول من الدستور الذي ينص على أن الدولة دينها الإسلام، وقال خلال إشرافه على حفل ديني بمناسبة شهر رمضان إن “الإسلام هو دين الأمة وليس دين الدولة، ونحن لا نصلي أو نصوم بناء على الفصل الأول من الدستور وإنما بأمر من الله”، مشيرا إلى أن “الدولة ذات معنوية مثل الشركات فما معنى أن يكون لها دين”، مردفا أن “العلاقة مع الله وليست مع من يدعي أنه الجهة الوحيدة المخولة لعبادة الله”.
وقبل ذلك، وفي أغسطس 2020، وجه قيس سعيّد انتقادا لاذعا للفصل الأول من الدستور، واعتبر أن الدول لا دين لها، ولكن الدولة يجب أن تعمل على تحقيق مقاصد دين الأمة، وفق تقديره. وفي خطاب ألقاه بمناسبة العيد الوطني للمرأة التونسية قال الرئيس سعيد إن “الفصل الأول من الدستور ينص على أن دين الدولة الإسلام، هل للدول دين؟ وهل ستدخل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة إلى الجنة أو جهنم؟”.
وكان ذلك الخطاب مناسبة جدّد فيها قيس سعيد رفضه لفكرة المساواة في الميراث بين الجنسين حيث رأى أن “النص القرآني واضح ولا يقبل التأويل، ومنظومة الإرث في الإسلام لا تقوم على المساواة الشكلية، بل هي منظومة متكاملة تقوم على العدل والإنصاف”.
وتابع قائلا “المساواة كما تمت بلورتها في الفكر الليبرالي هي مساواة شكلية، لا تقوم على العدل بقدر ما تقوم على الإيهام به، فلا يتمتع بهذه المساواة إلا من كان قادرا على ذلك. وليذكر من يريد أن يذكر موقف الخليفة عمر الفاروق (رضي الله عنه) الذي قضى لحبيبة بن زريف بنصف ما ترك زوجها المتوفى من أموال مشتركة بينهما، لأنها كانت تساعده في خياطة الثياب”.
ولم يترك قيس سعيد مناسبة دون أن يشدد فيها على إبداء نزعته المحافظة دينيا واجتماعيا، وانتقاده لثوابت الدولة الوطنية في مراحلها المتعددة منذ استقلال البلاد في عام 1956، وسعيه لتشكيل جهورية جديدة ينطلق فيها من تصوراته الخاصة لملامحها التي يهدف إلى ترسيخها، وهو ما يجعله في مواجهة حادة ليس فقط مع جماعة الإخوان ممثلة في حركة النهضة والدائرين في فلكها بسبب الصراع على السلطة والنفوذ، وإنما أيضا مع تيارات أخرى من بينها التيار البورقيبي الدستوري الممثل حاليا في الحزب الدستوري الحر، وتيارات يسارية وقومية وليبرالية ترى في المرحلة الحالية وفي الخيارات المطروحة طريقا نحو المجهول ومضيعة للوقت ليس إلا، ولاسيما أن القرارات الكبرى المتعلقة بكتابة الدستور وتحديد شكل نظام الحكم ورسم الأوليات والخيارات الكبرى تحتاج إلى أعلى نسبة ممكنة من التوافق عليها حتى لا تقع البلاد في نفس مآلات المراحل السابقة سواء عندما ألغى الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي أو عدّل عددا من المواد الدستورية التي كرسها نظام الحبيب بورقيبة، أو عندما تم في 2011 إلغاء العمل بدستور 1959 والتعديلات المدخلة عليه، أو ما يجري حاليا من اتجاه إلى إلغاء دستور 2014 وشرعنة دستور جديد من خلال الاستفتاء الشعبي حوله في الخامس والعشرين من يوليو القادم.
ويعتبر القرار المعلن باستبعاد الفصل الأول من الدستور السابق ولاسيما الفقرة الخاصة باعتبار الإسلام دين الدولة منطلقا لحالة من الجدل الحاد لعدة أسباب، منها أن هذا القرار سيدفع نحو جملة من الاستنتاجات، ومنها إعطاء قوى الإسلام السياسي مبررا للتشكيك في قوانين الدولة وإجراءاتها ومنجزاتها وسياساتها العامة، والدعوة إلى التمرد عليها والخروج عن سياقها باعتبارها غير معلومة الهوية عكس دول الجوار مثلا (المغرب والجزائر وموريتانيا ومصر وغيرها).
كما أن استبعاد التنصيص على دين الدولة قد يوحي بأن تونس تتجه إلى أن تكون دولة علمانية، وهو أمر لا علاقة له بالواقع، حيث أن تونس مثلها مثل بقية الدولة العربية لا تجرؤ على تبني العلمانية، ولا على الفصل العملي بين الدين والدولة، ولا على تحرير الدولة من الخضوع لفهم فقهائها لدور الدين في الحياة العامة.
وسيطرح موضوع التخلي عن التنصيص على الهوية الدينية للدولة جملة من الأسئلة حول الدور المستقبلي لوزارة الشؤون الدينية في الحكومة، ودور الدولة في حماية المقدسات وإقامة الشعائر ولاسيما في ظل القوانين القائمة التي استوحاها المشرّع من الشريعة الإسلامية، بالإضافة إلى العلاقة بالأحزاب والحركات والمنظمات والجمعيات التي تجعل من الدين غطاء لشرعيتها ولتحركها السياسي أو الإجتماعي أو المالي والاقتصادي أو التعليمي والثقافي.
وكان قيس سعيد، وهو أستاذ قانون دستوري في الأصل، قد تطرق في محاضرة ألقاها في الثاني عشر من سبتمبر 2018 إلى موضوع “دينها الإسلام” باعتباره مبحثا أكاديميا ومثار جدل واسع في مختلف الأوساط التونسية منذ كتابة دستور 1959 وصولا إلى دستور 2014.
وأوضح أن المجلس الوطني التأسيسي أراد في عام 1959 وضع حد للحكم المتعلق بدين الدولة وأن يحسم مسألة المضاف والمضاف إليه، والتأويل الذي يتبناه البعض بأن الضمير المتصل لا يتصل بالدولة وإنما بتونس، وأن الأمر لا يتجاوز مرتبة الإقرار بوضع اجتماعي دون ترتيب أي نتائج قانونية عليه.
قيس سعيد لم يترك مناسبة دون أن يشدد فيها على إبداء نزعته المحافظة دينيا واجتماعيا، وانتقاده لثوابت الدولة الوطنية في مراحلها المتعددة منذ استقلال البلاد في عام 1956
وحول تبني هذا النص من قبل المجلس الوطني التأسيسي في دستور 1959 قال قيس سعيد إنه، وبعد نقاش وجدل طويلين، انتهى أعضاء المجلس إلى الاتفاق على الصيغة التي تم إقرارها في قراءات ثلاث وهي أن تونس دولة دينها الإسلام، علما وأن هذه الصيغة وردت في أحد مشاريع توطئة الدستور قبل إعلان الجمهورية، ويبدو على الأرجح حسب شهادة أحد أعضاء المجلس أن الذي اقترح هذه الصيغة هو المقرر العام للدستور علي البلهوان.
ووفق وثائق لجان المجلس القومي التأسيسي قبل إعلان الجمهورية، فإن الرئيس الحبيب بورقيبة تقدم بمقترح يتعلق بالفصلين 2 و3 من مشروع الدستور. وبحسب المقترح المتعلق بالمادة 2 فإن “الشعب التونسي صاحب السيادة..”، وأما المادة 3 فقد نصت، وفق صياغة بورقيبة وبخطّه والوثيقة موجودة اليوم في باردو، على أن “الإسلام دين الدولة والعربية لغتها. والدولة تضمن حرية المعتقد وتحمي حرية القيام بالشعائر الدينية ما لم تخل بالقانون”، ثم اقترح بورقيبة تغيير ترتيب المادتين لتكون المادة المتعلقة بالدين هي الثانية والمادة المتعلقة بالسيادة هي التالية.
ويرى قيس سعيد أن تاريخ الإنسانية يحفل بالكثير من الأمثلة عمّا يُتعارف عليه اليوم بدين الدولة من مصر القديمة إلى المدن الإغريقية إلى الصين إلى فارس إلى روما، حيث أعلن الإمبراطور الروماني سنة 392 ميلاديّا أن المسيحية هي دين الدولة. وأكثر من ذلك، كانت قصور الأباطرة والملوك تتخذ شكل معابد لأنهم يعتبرون أنفسهم سدنة الآلهة التي يعبدون. لكن لفظ الدولة لم يكن يفيد المعاني التي نشير إليها اليوم رغم أن مستوى العلاقة بين الدين والدولة لم يختلف كثيرًا.
ويضيف أن دولا كثيرة تعترف اليوم في نصوصها بدين أو أديان محددة ولو اختلفت الصيغ وأشكال الاعتراف، فمن تنصيص صريح عن دين رسمي للدولة إلى اشتراط اعتناق الملك أو الأمير أو الرئيس لدين أو حتى مذهب ديني أو اعتبار الدين عنصرا من عناصر هوية الدولة كما يعترف مثلًا الدستور الهنغاري الصادر سنة 2011 في توطئته بدور المسيحية من أجل الحفاظ على الأمة.
موضوع التخلي عن التنصيص على الهوية الدينية للدولة سيطرح جملة من الأسئلة حول الدور المستقبلي لوزارة الشؤون الدينية في الحكومة
ويعتبر قيس سعيد أن من الأمثلة سيئة الذكر في هذا الإطار، ولكن لا مناص من ذكرها، القانون الذي صادق عليه الكنيست الصهيوني في التاسع عشر من يوليو 2018، انطلاقا من أن دولة إسرائيل كما ورد في باب المبادئ الأساسية لهذا القانون هي دولة قومية للشعب اليهودي الذي يمارس فيها حقه الطبيعي والثقافي والديني لتقرير المصير وممارسة حق تقرير المصير، وهي كما ورد في الفقرة ج من الفصل 1 حصرية للشعب اليهودي.
وكان أول دستور في البلاد العربية الإسلامية نص على علاقة الدولة بالدين هو الدستور العثماني الصادر سنة 1876، إذ نصت المادة 11 على أن دين الدولة العثمانية هو دين الإسلام مع المحافظة على أن تكون جميع الأديان المعروفة مصونة في البلاد العثمانية، وتكون تحت حماية الدولة ما لم تمس من الأخلاق. ونصت المادة الرابعة من هذا الدستور على أن حضرة السلطان هو الحامي لدين الله، وأعيد العمل بنفس الدستور سنة 1908 قبل أن يتم عزل السلطان عبدالحميد الثاني في السنة التالية ووضعه تحت الإقامة الجبرية إلى حين وفاته.
ووجدت الدول العربية في هذا الدستور العثماني المعروف باسم “المشروطة” مصدر إلهام لعدد من الأحكام والاستئناس بها، وقد نص مثلًا مشروع الدستور المغربي سنة 1908 على أن دين الدولة الشريفة هو الدين الإسلامي وأن المذهب الشرعي هو المذهب المالكي، ونص دستور إيران سنة 1907 على أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام وذلك استلهامًا من الدستور البلجيكي، وفي تركيا تم وضع دستور جديد ثم دستور آخر سنة 1924 تم فيه التنصيص على أن الإسلام هو دين الدولة قبل التنصيص في مرحلة ثالثة على أن الجمهورية التركية هي دولة علمانية. ومن بين الشروط التي فرضتها بريطانيا على الجانب التركي أثناء مفاوضات لوزان الفصل بين الدين والدولة.