ستحتضن العاصمة مدريد نهاية الشهر الجاري قمة لمنظمة شمال الحلف الأطلسي، وقد تشهد أكبر خطأ تجاه جنوب البحر المتوسط، في حالة إدماج الهجرة ضمن المخاطر التي تهدد الأمن الأوروبي، وبطريقة أخرى تصنيف المغرب والجزائر ضمن الأعداء المفترضين.
وتأتي قمة الحلف الأطلسي في ظروف استثنائية يمر فيها العالم، وتتجلى في الحرب الروسية ضد أوكرانيا، وهي الحرب التي تجعل الدول والتكتلات مثل، الحلف تعيد الحسابات الجيوسياسية، سواء المتعلقة بنسج تحالفات جديدة وتقييم مختلف المخاطر والانتشار العسكري والتقدم في الصناعة العسكرية.
وسط كل هذا، تفيد أخبار برغبة إسبانيا في خلق وضع جيوسياسي جديد في غرب البحر المتوسط، من خلال محاولة إقناع الحلف الأطلسي بالاهتمام أكثر بمنطقة شمال افريقيا ومنطقة الساحل. وصدرت تصريحات عن وزيرة الدفاع في حكومة مدريد مارغريتا روبلس، تنص على ضرورة اعتبار الهجرة من شمال افريقيا خطرا على الأمن القومي الأوروبي، ثم التركيز على منطقة الساحل الافريقي تحت ذريعة فرضية انتشار الإرهاب. في الوقت ذاته، تنقل وكالة أوروبا برس في مقال لها يوم 11 يونيو الجاري بعنوان «إسبانيا ترغب في توجه الحلف الأطلسي الى منطقة الساحل، وكذلك إلى المغرب والجزائر». وعمليا، تضغط إسبانيا على الحلف الأطلسي، لكي ينظر الى المغرب والجزائر، كمصدر للخطر يهدد الحدود الجنوبية للحلف الأطلسي وأوروبا، وليس الاهتمام فقط بالحدود الشرقية. ودفعت بالملك فيليب السادس مؤخرا إلى الدفاع عن هذه الأطروحة، بمناسبة الذكرى الأربعين لانضمام إسبانيا إلى الحلف بقوله «أمننا المشترك في الحلف الأطلسي يتطلب كذلك أن يولي اهتماما متزايدا للتحديات في الاتجاه الاستراتيجي الجنوبي». وتبرز الوكالة كيف تحاول إسبانيا تضمين فقرة خاصة بالتهديد المقبل من الجنوب، في تصور وبيان القمة نهاية الشهر مع تجنب إغضاب المغرب والجزائر، في إشارة واضحة في هذا الشأن. ويحدث هذا في وقت ترتفع فيه أصوات سياسية في إسبانيا تطالب بضرورة تأمين الحلف الأطلسي الحماية لسبتة ومليلية المحتلتين. وتعمل كل دولة على وضع التصورات الخاصة بأمنها القومي، وتوجد أسباب كثيرة تجعل إسبانيا تعرب عن قلقها من الضفة الجنوبية وهي:
أولا، اعتقادها باستعمال الجزائر والمغرب سلاح الهجرة السرية للضغط إبان الأزمات السياسية، والتسبب في أزمات اجتماعية في هذا البلد الأوروبي، لاسيما في وقت يتقوى اليمين القومي المتطرف، مستغلا الهجرة السرية. وترى إسبانيا كيف ارتفعت وتيرة قوارب الهجرة من الجزائر نحو إسبانيا، تزامنا مع الأزمة الحالية، وكيف اقتحم أكثر من عشرة آلاف مغربي مدينة سبتة المحتلة منتصف مايو 2021 على خلفية نزاع الصحراء.
كما يصوغ الغرب رؤيته لأمنه القومي، أطراف أخرى متضررة من حقها صياغة أمنها القومي وفق مصالحها ورؤيتها
ثانيا، تنظر إسبانيا بقلق كبير إلى مستوى التسلح الذي أصبح عليه كل من الجيش المغربي والجيش الجزائري، ولأول مرة منذ أكثر من قرنين يقترب فيه مستوى التسلح للضفة الجنوبية من الضفة الشمالية لغرب البحر الأبيض المتوسط. ويترتب عنه، فقدان إسبانيا استراتيجية الردع في مواجهة المغرب والجزائر، بل حتى فرنسا فقدت نسبيا استراتيجية الردع في مواجهة الجزائر، في حالة استثناء السلاح النووي. يقف الغرب بطريقة أو بأخرى بسبب سياسته غير الذكية وراء سياسة التسلح في كل من الجزائر والمغرب، التي أصبحت تقلق دول جنوب أوروبا. فقد بالغت إسبانيا في وصف المغرب بالخطر الجنوبي، وتركز كثيرا على التفوق الحربي واستراتيجية الردع. وارتكبت خطأ فادحا عندما حاصرت المغرب بحريا في أزمة جزيرة تورة سنة 2002 (حلقة غير معروفة بالقدر الكافي حتى الآن) ثم تبنى رئيس الحكومة حينئذ خوسي ماريا أثنار مفهوم الحرب الاستباقية ضد المغرب كعقيدة للجيش الإسباني. وقتها قرر المغرب، وعلى حساب التنمية، الرفع من مستوى التسلح، من مصادر جديدة مثل الصين وتركيا مؤخرا، حتى يقلل من التفوق الإسباني، علاوة على ضمان التوازن في سباق التسلح مع الجزائر. وتعود مدريد الى المنطق العسكري لمعالجة أزمة الهجرة في سبتة ومليلية بوضع استراتيجية عسكرية جديدة، في أعقاب ما حدث من اقتحام لسبتة خلال مايو 2021. من جهة أخرى، خطط الغرب لضرب الجزائر بعد سقوط نظام معمر القذافي، وهبّت روسيا لنجدتها بتسليحها بأسلحة متطورة، مثل منظومة الدفاع الجوي إس 400 وطائرات مقاتلة متطورة وصواريخ كاليبر وإسكندر، ثم تمكينها من تقنيات الضرب من قاع البحر بواسطة الغواصات، وهي تقنية لا تمتلكها إسبانيا وإيطاليا، وحققتها فرنسا السنة الماضية، ثم مناورات روسية – جزائرية مشتركة، وبالفعل من دون إغفال عامل سباق التسلح مع المغرب، في محاولة لفرض زعامة المغرب العربي. في حالة قبول الحلف الأطلسي الإشارة ولو ضمنيا الى شمال افريقيا ومنطقة الساحل كمصدر للخطر العسكري الذي يهدد الأمن القومي للغرب، خاصة الدول القريبة مثل إسبانيا، سيكون قد ارتكب وأساسا مدريد خطأ تاريخيا لأنه سيعني:
أولا، إضفاء طابع مؤسساتي على تصنيف شمال إفريقيا بمصدر الخطر وتعزيز «غياب الثقة» وبهذا سيحيي ذلك الخط الفاصل المهيمن منذ الحروب الصليبية، الذي قام على المواجهة العقائدية والثقافية، التي بدأت تعود مجددا إلى الواجهة.
ثانيا، الدفع أكثر بدول شمال افريقيا إلى التسلح من روسيا والصين ودول أخرى، بل احتمال قيام تحالفات عسكرية متطورة مثل منح الجزائر قواعد عسكرية للصين أو روسيا في حالة ارتفاع الخطر المقبل من الشمال. وسيحدث السيناريو نفسه مع دول الساحل التي ستسقط في أحضان روسيا والصين.
ثالثا، السقوط في التناقض الصارخ لأن تضمين الحلف الأطلسي لشمال افريقيا بمصدر الخطر، سيعني حتما غياب أي مصداقية للاستمرار في منتديات مثل الاتحاد من أجل المتوسط، ومجموعة خمسة زائد خمسة التي تضم فرنسا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا ومالطا ودول المغرب العربي.
رابعا، فقدان اتفاقيات الصداقة وحسن الجوار التي وقعتها إسبانيا مع دول شمال افريقيا ومنها المغرب، أي مصداقية في ظل إقحام الحلف الأطلسي. وكذلك فقدان اتفاقيات الشراكة الأوروبية مع دول شمال افريقيا أي معنى لها.
خامسا، في حالة تصنيف الحلف الأطلسي للمغرب ولو بشكل غير مباشر عدواً، سيعني أن صفة «المغرب شريك للحلف» التي يتمتع بها منذ سنة 2005 ستكون من دون معنى حقيقي، بل إجراء بروتوكوليا.
كل إجراء للحلف الأطلسي معتبرا قضايا اجتماعية مثل الهجرة والتحفظ على تسلح المغرب والجزائر، بأنه يهدد الأمن القومي الغربي مستقبلا سيكون خطأ فادحا، ومبررا لدول المنطقة لنسج مزيد من علاقات الدفاع مع قوى أخرى. كما يصوغ الغرب رؤيته لأمنه القومي، أطراف أخرى متضررة من حقها صياغة أمنها القومي وفق مصالحها ورؤيتها.