لا أعرف شيئا استثنائيا عن الفنان سعد لمجرد سوى ما يتعلق بتهمة الاغتصاب التي وُجهت إليه من قبل القضاء الفرنسي وأسقطت لاحقا.
هو من وجهة نظري التي قد تكون متخلفة فسعد المجرد واحد من مطربي زماننا العربي الذي فقد الصلة بالموسيقى الحقيقية. ولكن للرجل مَن يعجب به. له معجبوه الذين زاد عددهم بعد تهمة الاغتصاب.
ذلك ما يحدث كل يوم في عصرنا الذي لا يعتذر عن فساده. لذلك يمكن اعتبار لمجرد واحدا من شهود عصرنا. فحين تتدخل السياسة لتنقذه بعد أن يتم طمر حقائق إنسانية من خلال تسويات غير معلنة فإن ذلك معناه أن كل شيء قابل لأن يوضع في الميزان لكي يُباع ويُشترى. وليست العدالة حالة استثنائية في ذلك.
~ لم ينتفض المحتجون على الغناء لغيرة على القيم والأعراف والتقاليد الدينية وخوفا عليها من الضياع، بل لأنهم حُرموا من حصتهم المفترضة من الأرباح ومن تصاريف القدر أن يُدعى لمجرد للغناء في بغداد، المدينة التي تنتمي إلى قائمة الدول القليلة الأكثر فسادا في التاريخ.
سبقه في ذلك كثيرات وكثيرون كان أشهرهم المصري محمد رمضان الذي أصدرت الفعاليات الدينية والسياسية بيانات في هجائه وذم سيرة الجهة التي دعته، لا لشيء إلا لأنه نزع قميصه المزركش أثناء وصلة غناء تنتمي إلى أسلوب الـ”راب”. وهو عبارة عن كلام مرسل لا شعر فيه انتشر بين أولاد الشوارع في الحارات الفقيرة بأميركا.
كانت تذاكر حفله قد بيعت في وقت مبكر بسبب الإقبال الجماهيري وهو ما حدث فعلا مع المطرب المغربي لمجرد. بالنسبة إلى رمضان فإنه أقام حفلته وترك حراس الأخلاق والأصول والتقاليد والقيم الاجتماعية يدورون في حلقة مفرغة وهو ما لم يكن من حظ سعد لمجرد حين سبقه المعترضون إلى القاعة وفرضوا عليه مغادرة العراق بعد أن كان قد استلم أمواله التي هي أموال المعجبين الذين لن يعوضهم أحد.
تلك هي الحكاية المعلنة. مغزاها أن هناك قوتين تتصارعان في العراق. واحدة تريد الانفتاح على العالم الخارجي من خلال ما يُسمى بالغناء العصري وأخرى ترفع شعار “الغناء والموسيقى حرام والواجب الشرعي يفرض القيام بمنعهما بأي وسيلة”. تلك معادلة زائفة كباقي المعادلات التي تشكل مظهر العراق الجديد.
فما من معاصرة ولا شريعة وليست لطالبان علاقة بالموضوع وليست بغداد قندهار لنراها بوجهها الصحيح. ذلك لأن كل المعادلات يمكن أن تُقلب بين ليلة وضحاها. سيكون علينا أن نكون حذرين إذا ما تعلق الأمر بالمسألة العراقية. فالصراع بين الأحزاب هو الأساس الذي يستند إليه المزاد السياسي.
ما تعرض له المعجبون بلمجرد من ضياع أموالهم يعود إلى سبب سياسي. ولكن السياسة ينبغي ألا تفهم هنا إلا بالطريقة العراقية المعاصرة. السياسة هي تصريف الفساد.
~ يمكن اعتبار لمجرد واحدا من شهود عصرنا. فحين تتدخل السياسة لتنقذه بعد أن يتم طمر حقائق إنسانية من خلال تسويات غير معلنة فإن ذلك معناه أن كل شيء قابل لأن يوضع في الميزان لكي يُباع ويُشترى
لم ينتفض المحتجون على الغناء لغيرة على القيم والأعراف والتقاليد الدينية وخوفا عليها من الضياع، بل لأنهم حُرموا من حصتهم المفترضة من الأرباح. فالمعروف أن جميع ما يُسمى بنوادي الترفيه في العراق بما فيها دور البغاء وكازينوهات القمار تُدار من قبل الأحزاب الدينية التي تدير نظام المحاصصة. كل الذين حطموا قاعة الحفل ومنعوا الجمهور من التمتع بأمواله هم من مرتزقة تلك الأحزاب الذين استعرضوا قوتهم في مواجهة الأحزاب المستفيدة من ذلك الحفل.
من الصعب أن يُسمى ذلك الصراع باسمه الحقيقي. فهو ينتمي إلى زمن البلطجة في أسوأ مراحله. فلا علاقة له بالدين والأخلاق والمجتمع. إنه سياسة لكن بالطريقة العراقية المعاصرة. السياسة كما وضع علومها أبناء الشوارع.
تلك هي السياسة التي أدارت من خلالها الأحزاب شؤون العراق عبر العشرين سنة الماضية. وهي التي تركته خرابة لا تزال غربان الحرب تنعق بين جنباتها. فالعراق الذي عاش فصولا متلاحقة من الحروب منذ أربعين سنة لم يغادر اليوم الأول الذي بدأت فيه الحرب مع إيران ولا يزال الشر يحيق به من كل جانب أما كل ما يُقال عن الديمقراطية التي تم إحضارها معلبة على أيدي الجنود الأميركان فإن خير ما يُعبر عنها تلك التظاهرة الاحتجاجية ضد مطرب لم يكن إلى يوم مجيئه إلى العراق يعرف ما علاقة الكبة الموصلية برأس الجسر كما يقول العراقيون حين يسعون إلى تعريف العبث.
لقد عبثت الأحزاب بحياة العراقيين من أجل أن تسرق ثرواتهم وها هي تتصارع أمامهم من أجل ألا تخسر أكثر مكتسباتها تفاهة.