ما بعد الجنون المطبق.. الصحراء المغربية ليست “قضية وطنية” للجزائر

الصراف

لو كانت دوافع الجزائر للقطيعة الشاملة مع إسبانيا نزيهة وغير فاسدة، لكان يجب أن تشمل كل الدول التي تتخذ الموقف نفسه حيال قضية الصحراء المغربية.

قائمة هذه الدول لا تقتصر على الولايات المتحدة ومعظم دول أوروبا وأفريقيا، ولكنها تشمل معظم الدول العربية أيضا. والمنطق، لو أنه لم يكن قرارا انتهازيا، سوف يقتضي مقاطعة كل تلك الدول على حد سواء، وعلى نحو مماثل.

ولئن كانت تجوز التضحية بالمصالح الاقتصادية في القرار الجائر حيال النفس، بقطع كل أشكال التبادلات التجارية، بعد إلغاء معاهدة التعاون وحسن الجوار مع إسبانيا، فمن المنطق أن تجوز التضحية بالمصالح نفسها مع كل تلك الدول التي تؤيد موقف المغرب من صحرائه.

تفترض الرئاسة الجزائرية أنها تستطيع أن تلوي يد مدريد، فتتراجع، طالما أنها المستفيد الأكبر من الروابط التجارية التي تبلغ نحو 8 مليارات دولار سنويا. ولكن هذا الافتراض لن يفلح. لأنه في النهاية لا يقوم على أساس سليم من ناحية حق الدول في أن تقرر لنفسها السياسات التي تراها مناسبة لها. ولو جاز لكل مانح امتيازات أن يملي على الدول المستفيدة مساومات كالتي تحاول أن تفرضها الجزائر على إسبانيا، لما بقيت علاقات دبلوماسية مستقرة في العالم.

الموقف الجزائري من إسبانيا، انفعالي وزائد عن الحاجة، ولكنه فاسد أيضا. ومصدر الفساد الرئيسي يكمن في حقيقة أن الجزائر لا يمكنها أن تكون إلا “طرفا ثالثا” في “النزاع” حول الصحراء، مثلها مثل إسبانيا. أي أنها ومصالحها وعلاقاتها يفترض أن تقف على مسافة واضحة من طرفي القضية.

الحقيقة التي تخفيها الانفعالية الجزائرية، ولا تجرؤ على التصريح بها، هي أن الجزائر تستخدم هذه “القضية” ليس لأجل نصرة “شعب آخر” وقعت في غرامه، وقرّرت الدفاع عن مقدّساته، ولكن لأن لديها أطماعا توسعية في الصحراء المغربية

القبيلة الصحراوية التي تحيطها بوليساريو بأسوار التشرد والغربة واللجوء في مدينة تندوف الجزائرية، حتى ولو كانت “أمّة” هبطت إلى الأرض من مجرات أخرى، في تمايزاتها وحقوقها عن بقية فئات وقبائل وشعب المغرب، فإن الجزائر تظل، حتى في هذه الحال، طرفا يفترض ألا يكون معنيا بالنزاع إلى تلك الدرجة التي تغريه بتدمير مصالحه هو.

“مغاربة مع بعضهم”. هذا هو الأساس الوحيد السليم للنظر إلى مسألة الصحراء. وهم أولى بحل مشاكلهم من دون أن يفرض أيّ طرف ثالث نفسه وكأنه طرف ثان، أو أن له حق الوصاية على أحد.

حتى قيم التضامن لا تسمح بذلك.

هل يوجد مثال أكثر سطوعا من ارتباط العرب بالقضية الفلسطينية؟ هل يوجد ما هو أقدس لهم من “أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين”؟ مع ذلك، فلقد علّمت التجارب كل العرب، أن الفلسطينيين شعب يحق أن يقرر لنفسه، وأنهم بعد كل الشراكة والتضامن، طرف ثالث. الصراع بقي في بعض جوانبه عربيا – إسرائيليا، إلا أنه منذ قرار القمة العربية في الرباط في العام 1974 باعتبار “منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني”، فقد أصبح الوجه الرئيسي للصراع فلسطينيا – إسرائيليا، وصار العرب فيه طرفا ثالثا. حدث ذلك بطلب فلسطيني تقدم به واستمات من أجله الرئيس الراحل ياسر عرفات.

أين هي أولى القبلتين في الصحراء المغربية تلك التي تجبر الجزائر على أن تدمر علاقاتها مع المغرب، من أجل نصرة ذلك الشعب الذي جاء من خارج درب التبانة؟ ثم أين هو رابع الحرمين الشريفين لكي تعود فتدمر علاقاتها مع إسبانيا وأن تلوّح بالاستعداد نفسه لدول أخرى، لأجل “قضية مقدسة” كهذه؟

أهي كذلك فعلا؟ أم أنها مجرد افتراض من صناعة الأوهام التي لا علاقة لها بالواقع؟

الانفعالية عندما تبلغ مستوى الهستيريا يمكنها أن تبلغ كل مبلغ. هذا أمر مفهوم. ولكنّه غير سليم في النهاية.

الحقيقة التي تخفيها الانفعالية الجزائرية، ولا تجرؤ على التصريح بها، هي أن الجزائر تستخدم هذه “القضية” ليس لأجل نصرة “شعب آخر” وقعت في غرامه، وقرّرت الدفاع عن مقدّساته، حتى تغافلت عن مقدّساتها ومصالحها الخاصة، ولكن لأن لديها أطماعا توسعية في الصحراء المغربية.

هذه الأطماع التوسعية أصبحت عقيدة سياسية وعسكرية تهيمن على عقلية النظام السياسي برمّته. حتى لم يعد بوسع أحد أن يفلت منها. وبالرغم من أنها ظلت تتخفى خلف ستار مهلهل للتضامن مع “الشعب الصحراوي”، إلا أن ذلك التضامن المزيف ظل يخفي الوجه الحقيقي لتلك الأطماع. وهو تضامن مزيّف، أولا، لأنه مُبالغ فيه. وثانيا، لأن الغايات التوسعية شديدة الجلاء.

الجنون عندما يُطبق، يمكنه أن يدفع إلى تدمير المصالح، ولكنّ الحقائق تظل حقائق. فالقضية الصحراوية ليست “قضية وطنية” بالنسبة إلى الجزائر. والمغاربة أولى بحل مشاكلهم بأنفسهم

هذه الغايات هي التي تدفع السلطات الجزائرية إلى التحكم المطلق بالسجن الذي تضع قبيلة تندوف فيه، وتتحكم بكل مفاصل جبهة بوليساريو، بوصفها كتيبة من كتائب الجيش الجزائري.

الصحراء بالنسبة إلى أيديولوجيا النظام السياسي الجزائري ليست قضية “شعب آخر”؛ ليست قضية “طرف ثالث”. إنها “قضية وطنية” حصرا. والانفعالية الطائشة هي تعبير مُبطّن عن مدى حساسية الموضوع باعتباره قضية “تحرر” وطنية ناقصة.

وهذه الفكرة جريمة خالصة، حتى ولو كانت مجرد فكرة. فكيف بها عندما توفر أساسا للتهديد والتوتر الأمني والضرر الاستراتيجي وهدم المصالح؟

لم يضع المغرب شروطا لحل الأزمة مع قبيلة تندوف أبعد من أن يحتفظ بسيادته على أرضه. كل الباقي بالنسبة إلى المؤسسة السياسية المغربية يقوم على قاعدة “مغاربة مع بعضهم”. ينعجنوا أو ينخبزوا بهذا الشكل من أشكال الحكم الذاتي أو ذاك، فإنهم في النهاية مواطنو بلد واحد، وطن واحد. ولسان حال المغرب يكاد يقول “خذ من الحقوق ما تشاء. ولكن السيادة على الأرض شيء مختلف”. إنها حق من حقوق الملك. أو بمعنى أوضح: حق من حقوق كل مغربي.

كل ما يضايق العقيدة التوسعية الجزائرية هو هذه السيادة حصرا، وليس حقوق الصحراويين أو كيف يعيشون أو ما هي مصالحهم. لأنها تنسف أطماعها هي، في أرض يفترض أنها تنطوي على موارد، وفي إطلالة على الأطلسي، توفر ممرا لحقول النفط والغاز إلى الوجهة الغربية من العالم.

الصحراويون، على أيّ حال، هم ليسوا قبيلة تندوف الجزائرية. مجرد تصور أن هذه القبيلة هي كل الشعب الصحراوي، شيء لا علاقة له بالعقل.

مدن وبلدات الصحراء العامرة بالحياة تحكي قصة أخرى من قصص العيش المشترك في وطن واحد. حتى “الحكم الذاتي” فكرة زائدة عن الحاجة حقا. المغاربة يتمتعون بمؤسسة حكم مدنية أكثر أهلية وديمقراطية وتعددية من أيّ مشروع للحكم الذاتي. ولكن إذا اقتضت الحاجة إلى حكم ذاتي يضع حدا للصداع، فإنه شيء يمكن التعايش معه.

الجزائر، بوصفها طرفا ثالثا، هي التي يجب أن تهدأ وتنظر إلى موطئ قدميها، وتكف عن ممارسة الهستيريا حيال قضية “شعب آخر”، فتدمّر لأجل الغرام به مصالحها الخاصة.

الجنون عندما يُطبق، يمكنه أن يدفع إلى تدمير المصالح، ولكنّ الحقائق تظل حقائق. فالقضية الصحراوية ليست “قضية وطنية” بالنسبة إلى الجزائر. والمغاربة أولى بحل مشاكلهم بأنفسهم. هذا الواقع، هو وحده الواقع.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: