منذ الثمانينيات تقريبا وحتى يومنا هذا، لم يتوقّف السوسيولوجي المغربي عبد الصمد الديالمي عن الحفر في عالم سلوكيات المغاربة الجنسية. فعالم الاجتماع لا يضحك من ظاهرة اجتماعية ولا يبكي من أجلها، بل ينبغي أن يساهم في بناء نظرية سوسيولوجية تسمح بفهم السلوكيات الجنسية دون إصدار أي مواقف قيمية. وسيمكّن هذا المنهج الديالمي من نقل الخطاب حول الجنس في المغرب من عالم الإعلام والدولة والمؤسسات الدينية، إلى جعله مادة للنقاش العلمي والمعرفي. ولذلك، يلاحظ من يقرأ كتبه الصادرة في الأعوام الأخيرة، وجود خطاب ونقاش آخر حول الجنس والمدينة في المغرب العربي، أكثر قربا من الواقع، ويحمل في زواياه رغبة بما يدعوه هو بـ»الإصلاح الجنسي» في هذه المدن. وهو مشروع جريء، يقوم على فكرة ضرورة وجود إصلاح ديني ودولتي مواز له، ودونه لا يمكن التأقلم وحتى التعامل مع السلوكيات الجنسية المغربية ، وهي سلوكيات تبدو في بعض مظاهرها غريبة عما عرفوه قبل عقود.
لكن هذا المشروع، لا يخفي أنّ الديالمي وبقدر نجاحه في رصد حياة المغاربة الجنسية، إلا أن أفكاره الإصلاحية، وبالأخص تلك التي تتعلق بالنصوص الدينية، لم تخل من بعض المثالية، وأحيانا من قراءات متحيزة. فهو وإن كان يرى أنّ الإسلام قد حقق ثورة جنسية وجندرية من خلال قبوله بفكرة أحقيّة الزوجة في المتعة مثل زوجها، وهذا ما تنبهت إليه الراحلة فاطمة المرنيسي عندما أجرت مقارنة بين النظرية الجنسية عند الغزالي وفرويد، إذ لاحظت أن الأول يؤكد على الجنس بوصفه لحظة ممتعة للطرفين، بينما يرى فرويد أنّ الجنس هو مجرد اغتصاب الرجل للمرأة؛ إلا أنّ الديالمي أحيانا وفي سياق مشروعه الإصلاحي الجنسي، لا يرى مفرا من قبول الإسلام بفكرة ممارسة الجنس قبل الزواج. وهذا أمر يبدو أن الأديان جميعها، وليس الإسلام فحسب، غير قادرة على المضي فيه، ما يطرح إشكالية أمام مشروعه الجنساني العربي، ولعل هذا ما جعل من كتابات الديالمي محل جدال ونقاش بين المغاربة.
إلا أنّ الملاحظات السابقة، لا تنفي أهمية ما يقدمه هذا الرجل على مستوى قراءة واقع الجنس في المغرب. وهذا ما نراه بشكل جلي في كتابه الصادر مؤخرا بعنوان «نحو إصلاح جنسي في المجتمعات الإسلامية» الذي يضم مجموعة من المقالات والأبحاث، وتدور في معظمها حول الجنس وموقع النساء في الإسلام.
يرى الديالمي أن هناك مقاربات اليوم لوصف سلوك المغاربة في الميدان الجنسي. إذ يذهب الكثير من الصحافيين إلى اتهامهم بالنفاق في موضوع الجنس، بمعنى أنّ حياتهم الجنسية اليومية مليئة بسلوكيات وممارسات جنسية غير شرعية وغير قانونية، مع حرصهم على إخفائها، وعدم تبنيها وعدم الاعتراف بها، حفاظا منه على صورة اجتماعية إيجابية. ومن ثم للمغربي وجهان، وجه علني وآخر مضمر يخرق يوميا تلك الأخلاق.
وقد ذهب البعض إلى استعمال مصطلح انفصام الشخصية المغربية لوصف الازدواجية وعدم الانسجام بين القول والفعل. في المقابل هناك الرؤية الإسلامية، التي عبّرت عن نفسها في المغرب من خلال ثلاثة مصطلحات، «العودة إلى الجاهلية» والفتنة والانحراف. وكان أول من طبّق مصطلح العودة إلى الجاهلية هو «حركة الشبيبة الإسلامية» في مطلع السبعينيات من القرن العشرين، والمقصود به تكفير المغرب دولة ومجتمعا، بالنظر إلى عدم تطبيق شريعة الإسلام. أما مصطلح الفتنة فقد استعمله عبد السلام ياسين شيخ «جماعة العدل والإحسان» من أجل التخلي عن المصطلح السابق. فالفتنة لا تعني أنّ المغرب ارتدّ عن الإسلام، فهي بالتالي ليست جاهلية وإنما فقط أزمة وتخلفا، ومن تمظهرات الفتنة كما يرى ياسين «الفساد الجنسي الذي جعل من المغرب بؤرة من البغاء الدولي».
أما مصطلح الانحراف، فقد استعملته جمعية الإصلاح والتوحد، وهي الحضن الأيديولوجي الأول لـ»حزب العدالة والتنمية» والمقصود به أنّ الأمة المغربية تخرق تعاليم الإسلام بالجملة لكنها لا تزال مسلمة رغم ذلك.
وهنا نرى أنّ النظريات الإسلامية هي نظريات اجتماعية لا تهدف إلى التفسير، وإلى الفهم من خلال تحليل موضوعي أكاديمي للظاهرة الجنسية المغربية، وإنما همها الأساس اتهام المجتمع المغربي بالفساد الجنسي والانحلال، انطلاقا من نموذج مجتمع إسلامي مثالي ماض وخال من الزنا.
الانتقال الجنسي
في مقابل هذه الرؤى، يقدم الديالمي سيرة للسلوكيات الجنسية في المغرب خلال العقود الأخيرة، من خلال ما يدعوه بـ»فكرة الانتقال الجنسي» التي شهدها هذا المجتمع على ثلاث مراحل:
الأولى، يدعوها الديالمي بمرحلة التطابق الديني. وهي المرحلة التي عاشها المغربيون لفترة طويلة واستمرت حتى النصف الأول من القرن العشرين، وكانت تقوم على منع الاختلاط الجنسي، من خلال إجبار النساء على البقاء في البيت أو على ارتداء لباس يغطي أجسادهن، وغالباً ما انحصرت معظم العلاقات الجنسية في إطاري الزواج والتسري. وهذا لا يعني أنّ العلاقات غير الشرعية كانت منعدمة كليا، إلا أنها كانت تشكّل آنذاك ظواهر هامشية جدا.
أما ثاني طور في مرحلة الانتقال هذه، فيدعوها بمرحلة «الانفجار الجنسي». وتتمثّل بانفجار الوحدة بين المعيار الديني والسلوك الجنسي، أي حدوث قطيعة بين معيار إسلامي يحرم الزنا والمثلية، وانتشار سلوكات جنسية غير زوجية ومثلية. وعلى الرغم من أنّ المعيار الإسلامي التحريمي ما زال يشكل المعيار الأساسي في تأطير النشاط الجنسي بشكل عام، لكنه لم يعد مؤطراً للسلوكيات الجنسية الواقعية، التي باتت تتمثل في انفجار الجنسانية قبل الزوجية، وانفجار العمل الجنسي، وانفجار المثلية الجنسية.
فعلى صعيد الجنسانية ما قبل الزوجية، تبيّن مؤشرات إحصائية في عام 2013 أنّ العلاقات الجنسية غير الكاملة في ارتفاع. كما نلاحظ توسع ظاهرة العاملات الجنسيات، التي لم تعد محصورة في المطلقات والأرامل، بل أصبحت مهنة ومصدر عيش تطال الكثير من الشابات والشبان، وباتت تشكل في كل الأحوال حلا غير مهيكل للبطالة المتفشية في أوساط الشباب الحضري. ولذلك نرى أنّ هذه المهنة قد توسّعت بسبب الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن سياسة إعادة التقويم الهيكلي، وهي سياسة شملت المغرب في بداية الثمانينيات من القرن الماضي. وفي هذا السياق يلفت الديالمي النظر إلى تواطؤ السلطات العمومية في تنظيم غير مهيكل لسوق بغائية غير مهيكلة. فالعمل الجنسي يحرك الساحة والاقتصاد، وبالتالي تجد السلطات العمومية نفسها غير قادرة على ضبط سوق جنسية تجارية دولية، تستقطب سياحا جنسيين وتصدّر عاملات جنسيات مغربيات.
وهناك في سيرة الانتقال الجنسي في المغرب عامل ثالث يتمثّل في انفجار المثلية، ويرى الديالمي أنّ ما أعطى المثلية دفعة قوية هي شبكات التواصل الاجتماعي التي مكنتهم من التعرّف إلى بعضهم بعضا، والالتقاء وتكوين جمعيات.
وتبقى هناك خطوة أساسية أيضا في مشروع الإصلاح الديالمي للجنس، تقوم وفق ما يراه على القيام بإصلاح ديني مواز. فالإمساك الجنسي قبل الزواج والصوم والزواج المبكر لم تعد حلولا قابلة للتطبيق مهما بلغ إيمان المؤمن من قوة وصلاح، وبالتالي لا بد من اجتهاد بلا حدود يؤدي إلى تعليق العمل بظاهر بعض النصوص المرجعية.
ومما يلاحظه في هذا الشأن أيضا، انقسام المغاربة حيال هذا الواقع الجنسي المثلي، وفقا لخلفيات تتعلق بالدين أو السوق. ففي مدينة وجدة مثلاً نرى أن هناك اعترافا بالمثلية بوصفها معطى بيولوجيا، إذ يجري تأويل فائض الهرمونات الأنثوية كمرض، والقول إنّ هذه الهرمونات تجعل الذكر عاجزا عن الانتصاب، أي عن الفحولة، لهذا يبحث هؤلاء عمن يعاملهم كأنثى. مع ذلك لا يتعاطف الأهالي مع هذه الحالة، بل نراهم يرون ضرورة قتلهم. وفي مقابل هذه الرؤية الطبية الشعبية، نرى في مدينة أكادير الساحلية، المشهورة باستقطاب العديد من السياح الجنسيين الأجانب، مقاربة أخرى للمثلية مرتبطة بعامل السوق، على حساب المقاربة الهرمونية أو النفسية. فهنا تفسّر المثلية الجنسية كنشاط اقتصادي، وكعمل جنسي يمكّن الشباب من مواجهة البطالة وأزمة الشغل. وبالتالي نرى أنفسنا، وفقاً للديالمي، أمام رؤية ليبرالية جديدة تقطع مع المنظور الديني، وترفض تجريم الفاعلين في حقل البغاء، وتقطع مع المقاربة الماركسية التي تعتبره استغلال لجسد النساء والرجال، وإنما تراه بوصفه مهنة إرادية مضبوطة من طرف ممارسيها.
نحو إصلاح جنسي مغربي
مع ذلك، يدعونا الديالمي للحذر من هذه الرؤية، إذ يعتقد أنّ الإصلاح الجنسي في الغرب قام على فكرة الحق في الجنس الرضائي قبل الزواج، وإعداد برامج للتربية الجنسية تسعى إلى تمكين الفرد من التعرف إلى مختلف وسائل منع الحمل وطرق الحماية من الأمراض المنقولة جنسيا. كما قام على فكرة التربية الجنسية الشاملة على تثمين جنسانية راضية ومتراضية، كشرط ضروري للتوازن النفسي، وفي اعتبار الإجهاض والإنجاب اختيارا. لكن في المقابل، أدّى هذا الإصلاح الجنسي في إطار النظام الرأسمالي الليبرالي المعولم إلى جنسية عالية لكل المجتمعات المعاصرة، التي تقوم على إشعال الرغبات الجنسية بمختلف الوسائل وتحويلها إلى طلب دائم، من خلال الجنس الرقمي والإشهار المسلع للجسد. وهذا ما يراه خيانة لمقاصد الثورة الجنسية، لأن هذه الثورة تقوم على القول بالحرية الجنسية المتراضية ورفض الإباحية الجنسية التسليعية. هنا يقترح علينا الديالمي الإدراك أنّ هذا الإصلاح بات ضرورة عمومية، وأنه لا يطالب بالقضاء على الزواج والأسرة. أولى الخطوات تكون من خلال حيادية الدولة، انطلاقا من أنه ليس لها الحق في تجريم الفرد الممارس للتحذيرات الدينية للجنسانية غير الزوجية. ورغم أن الدولة باتت حيادية فعلا، من خلال عدم متابعة كل السلوكيات الجنسية، لكنه يرى أنّ سياسة غض النظر هذه ناجمة في الأساس عن ضغط الواقع الجنسي العربي البائس. كما أنّ مقاربتها للأمر ناجمة أحيانا عن رؤية أمنية، فهي ترى أنّ غياب الجنس يدفع الشباب إلى الجهاد. ولذلك يدعو الديالمي الدولة إلى تبني سياسات وبرنامج واضح.
وتبقى هناك خطوة أساسية أيضا في مشروع الإصلاح الديالمي للجنس، تقوم وفق ما يراه على القيام بإصلاح ديني مواز. فالإمساك الجنسي قبل الزواج والصوم والزواج المبكر لم تعد حلولا قابلة للتطبيق مهما بلغ إيمان المؤمن من قوة وصلاح، وبالتالي لا بد من اجتهاد بلا حدود يؤدي إلى تعليق العمل بظاهر بعض النصوص المرجعية. ولعل هذا التصور الجريء قد جلب على المؤلف الكثير من الانتقادات، خاصة أنه يرى أنّ الإسلام نفسه قد أدرك ذلك، عند إباحته مثلا لزواج المتعة، الذي اعتبره الكثير من العلماء حلا لمسألة الجنس عند الشباب المسلم، ولذلك فهو يرى أنّ على المؤسسة الدينية اليوم البحث عن حلول واقعية بدلا من الدعوة للتحصّن.
لكن ما قد يسجل على كلام الديالمي هنا، أنه أيضا يبدو مثاليا وباردا، وغير اجتماعي في المقابل، فهو مثلا يرى أنّ أحد أسباب منع الإسلام للجنس قبل الزواج قائم على فكرة عدم اختلاط الأنساب، وأنّ الطب الحديث بات يوفر تقنيات لتجاوز هذه المعضلة، ولذلك لا بأس من القبول به، لكن في كلامه ما يوحي بالمقابل وكأن الزواج ليس سوى مجرد غرفة نوم ومتعة جنسية، متناسيا بالمقابل أنه أيضا عالم اجتماعي مواز، يتضمن علاقات وهندسة اجتماعية (المرنيسي) وخبرات يومية، وينظر له أحيانا بوصفه مؤسسة للحفاظ على قيم الجماعة وإرثها وتوازناتها أحيانا (حسن رشيق). وبالتالي فإنّ حالة الحرية الجنسية التي يدعو لها الديالمي قد تراها الجماعات المسلمة تهديدا للمكتسبات التي حققتها من خلال تقنين الجنس (مؤسسة الزواج) ما يعني أنّ الإصلاح النصّي لن يكون كفيلا بهذا الإصلاح الجنسي بالضرورة.