تنطلق مناورات “الأسد الأفريقي”، المقررة في العشرين من يونيو الجاري، في ظروف سياسية وأمنية غاية في الدقة والحساسية تمر بها القارة الأفريقية، أبرزها عدم الاستقرار الذي تعيشه بعض دول منطقة الساحل والصحراء، وتمدد الجماعات الإرهابية وما تشكله من تهديد للطرق التجارية ومنابع الطاقة والثروات.
لا يمكن أن يعمّ الرخاء وأن تتوسع الأسواق في غياب الأمن والاستقرار، وهو ما تهدف إليه التدريبات العسكرية في الصحراء المغربية، خصوصا في منطقتي المحبس وطانطان، في محاكاة ميدانية للبيئة الصحراوية السائدة في بعض مناطق أفريقيا.
من هذا المنطلق يُنظر إلى المناورات باعتبارها تمرينا متعدد المجالات، يستهدف تكتيكات الجماعات الإرهابية، ويشمل التخطيط المسرحي واللوجستي الاستراتيجي، وهو ما دفع الجنرال مارك جاكسون نائب قائد “سيتاف – أفريقيا” التابعة لـ”أفريكوم” (القوات الأميركية في أفريقيا) إلى التأكيد على أهميته لبناء جاهزية الوحدات التكتيكية ونشر قوات على بعد الآلاف من الأميال عبر المحيط الأطلسي والتدريب على عمليات مشتركة ومتطورة في جميع المجالات.
مناورات “الأسد الأفريقي”، التي بدأت منذ سنوات، أصبحت موعدا سنويا يتحقق على أرض المغرب، نظراً للأهمية الاستراتيجية التي توليها واشنطن والرباط لهذا التعاون العسكري، والبعد الأمني لمحور التعاون الإقليمي على المستوى الأفريقي. فالمغرب الذي يعتبر نموذجًا لاستراتيجية الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب، يحرص على أن يكون عمقه الأفريقي مستقرا وآمنا لاعتبارات متعددة يتشابك فيها التاريخي والحضاري مع الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي والروحي.
التفكير في دروس أفغانستان بالنسبة إلى أفريقيا أمر ملحّ بالنسبة إلى الدول التي تشارك في مناورات “الأسد الأفريقي”، ولا مجال هنا للتردد، وهذا يعيه المغرب بشكل خاص، وأيضا واشنطن، التي تنشر حوالي 6000 جندي أميركي في أفريقيا، معظمهم منخرط في الحرب ضد الجماعات الإرهابية.
الولايات المتحدة لا تنظر بعين الرضا إلى وجود مرتزقة روس من شركة فاغنر العسكرية الخاصة في بلدان الساحل والصحراء، خاصة في مالي، لأنها ترتبط بإذكاء الصراعات التي تستفيد منها الجماعات الإرهابية، حيث تمثل منطقة الساحل والصحراء، التي طالما كانت مسرحًا للإرهاب ومشاكل سياسية على مدى عقد من الزمان، معركة غير معلنة بين الدول الغربية وروسيا. والهدف من المناورات توصيل رسائل إلى قوى أو دول معادية لحلفاء واشنطن في المنطقة.
المغرب والولايات المتحدة حريصون على الجاهزية وسرعة الاستجابة في مواجهة أزمات المنطقة الحساسة ومجتمعاتها المهمشة والفقيرة والمهملة، والمساهمة في استقرارها من خلال مبادرات سياسية وأمنية ودبلوماسية واقتصادية
التحالف الذي تحدث عنه المسؤول الأميركي يشمل كافة العناصر الأمنية والعسكرية والمعلوماتية، التي تعزز من جاهزية الأطراف المشاركة في التعامل مع الظاهرة الإرهابية في أفريقيا، من خلال المهارات المهنية وبنوع من الفعالية في ميدان الدفاع الأمني المشترك، وتشارك فيه العديد من الدول، على رأسها الولايات المتحدة، بما يقرب من 8 آلاف جندي ينتمون لـ18 دولة.
مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2022 كشف عن أن منطقة الساحل، بتنوع ثقافاتها ولغاتها وإثنياتها ودياناتها، هي موطن الجماعات الإرهابية الأسرع نموًا والأكثر فتكًا في العالم، حيث تستغل هذه الجماعات تعقيدات المنطقة ومشاكلها للتغلغل داخلها وتوطيد خططها وأجنداتها.
وشجع التقدم التكنولوجي الجماعات الإرهابية على استخدام الصواريخ والطائرات المسيّرة لتوسع مدى هجماتها وتقلل من خسائرها، وسهلت عليها الهواتف الذكية والوسائط الاجتماعية والتشفير بأسعار معقولة، نشر أفكارها وتجنيد عناصر جدد. هذا كله يجعل من التعاون العسكري المغربي – الأميركي، في مجال مكافحة الإرهاب أمرا استراتيجيا، تجسد بوضوح في التمارين التي تخضع لها القوات المغربية والدول المشاركة، على مستويات متعددة.
بعد الهزائم العسكرية في سوريا والعراق، حوّل تنظيم الدولة الإسلامية اهتمامه إلى منطقة الساحل. والخطير أن الجماعات الإرهابية طوّرت من أساليب عملها باعتماد تقنيات أكثر تقدمًا، الأمر الذي شكل تحديا كبيرا للدول التي تعمل على إنهاء وجود هذه الجماعات في القارة الأفريقية، حيث تتفاقم ظاهرة الإرهاب بسبب النمو السكاني المرتفع، ونقص المياه والغذاء، وتغير المناخ وضعف الحكومات.
بعيدًا عن الاعتبارات التكتيكية، الهدف من مناورات “الأسد الأفريقي”، هذا العام، مفتوح على تعزيز التعاون في مكافحة الإرهاب، فبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 نشرت واشنطن قواتها ونفوذها وترسانتها لمواجهة كل الجماعات الإرهابية. إلا أن ذلك لم يوقف تلك الجماعات عن حصد المزيد من الأرواح وتهديد المجتمعات والدول، من هنا كانت حاجة واشنطن إلى حلفاء يمكن الوثوق بهم للحد من نمو تلك الجماعات في أفريقيا على وجه خاص، ومن ضمنها داعش وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين، التي تعمل في منطقة الساحل، والتي يقال إنها مسؤولة عن 351 حالة وفاة خلال عام 2021 وحده فقط.
تتحرك الجماعات الإرهابية داخل أفريقيا في ثلاث مناطق جغرافية رئيسية، وتعمل على الاستفادة من الحروب الأهلية وإذكائها. أولى هذه المناطق الصومال، وثانيتها منطقة الساحل في غرب أفريقيا، حيث تأثرت المنطقة الحدودية بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو إلى جانب ساحل العاج وتوغو وبنين كثيرا بتداعيات الأعمال الإرهابية. وثالثتها المنطقة المحيطة ببحيرة تشاد وشمال شرق نيجيريا، حيث يؤثر الصراع بشكل مباشر على شمال الكاميرون وتشاد والنيجر.
بالطبع، مجرد حمل السلاح ضد الجماعات الإرهابية المتطرفة لا ينهي المشاكل. ولكن، في المقابل وقف الجهود الأمنية قد يكون كارثيا. لهذا تعتبر مناورات “الأسد الأفريقي” فرصة عسكرية وأمنية للحد من تكرار سيناريو طالبان في أفريقيا، شرط أن تسير بالتوازي مع تقديم المساعدات الإنمائية والاقتصادية، وعدم إهمال نوع آليات الحكم المحلي المعمول بها على مدى قرون.
تركز الدول المشاركة في المناورات على بلدان عانت تاريخيا من الفشل، بسبب حكومات ضعيفة تعاقبت عليها وعجزت عن توفير الأمن والاستقرار لقطاعات واسعة من السكان. وغالبًا ما تكون القوات العسكرية في تلك البلدان ضعيفة على مستوى التدريب وتعاني من نقص التجهيزات والمعدات، وهو ما يخلّف فراغا تتركه الحكومات الفاشلة وتستغله المجموعات الإرهابية والمنظمات الإجرامية.
انطلاقا من هذه المعطيات يمكن فهم حرص المغرب والولايات المتحدة على الجاهزية وسرعة الاستجابة في مواجهة أزمات المنطقة الحساسة ومجتمعاتها المهمشة والفقيرة والمهملة، والمساهمة في استقرارها من خلال مبادرات سياسية وأمنية ودبلوماسية واقتصادية.