لسان حال المسؤولين في الجزائر يقول “لم نعد نعرف ماذا يريد الشباب في البلاد. أعطيناهم معونة شهرية، فصاروا يجمعونها لشراء تذاكر سفر إلى الخارج. ونأخذهم إلى مسابقات رياضية، وتراهم يتدربون لها بمنتهى الحماس، فإذا بهم يستغلونها للهرب وطلب اللجوء. وبعضهم صار يتسلل إلى المطارات لكي يتسلق إلى حجرة الأمتعة أو حجرة العجلات، فيموت من البرد فيها، أو تتقطع أشلاؤه. وأرادوا التغيير فحصلوا على رئيس شاب يبلغ من العمر 77 عاما، ولأجل خدمة طموحاتهم المستقبلية، فإنه ينوي البقاء في السلطة حتى يجلس على مقعد متحرك. وظلوا يتظاهرون مطالبين بتغيير النظام، فقمنا بتدوير كل الكراسي بحيث صار في الخلف مَنْ كان في الأمام، وصار في الأمام مَنْ كان في الخلف. فلماذا الجحود؟ ولماذا الإجحاف؟
وأرادوا انتخابات ديمقراطية ففازوا بنظام حظي بتأييد 20 في المئة من السكان. فماذا يريدون أكثر من ذلك؟ وكل شيء تمام في البلاد. البطاطا متوفرة. وأرفف المخازن عامرة بالمشتريات التي ليس عليها طلب. ونحن نحارب التهريب عندما نرى أي مواطن يريد أن يشتري قنينتين من زيت القلي. لأنه أين سيذهب بالثانية؟ ولدينا مؤسسة عسكرية قوية. أسلحتها سوفياتية من أحسن طراز. ويقودها رجل حتى ولو كان عمره 77 عاما إلا أنه يتابع وسائل التواصل الاجتماعي، ويلاحق المظاهر السلبية ويهددها بالملاحقة من قلب هيئة الأركان. وهو يحث الشباب على المظاهر الإيجابية. ومنها إيتاء ذي القربى، وعدم التظاهر، والتركيز على ‘العدو الخارجي’. ونحن نزرع قمحا لكي نستغني عن كل الواردات من أوكرانيا، ونكتفي بالواردات من روسيا. ولدينا علاقات خارجية طيبة مع كل الدول المتحضرة في العالم، بما فيها كوريا الشمالية وتركيا وإيران.
أما الدول العربية فكلها تؤيدنا في معاداة المغرب، إلى درجة أن قادتها لا يريدون المشاركة في القمة العربية المزمعة في الجزائر لكي لا نشعر بالإحراج إذا أرادوا تقديم الدعم لنا بالمشاركة في وقف الغاز والرحلات الجوية وإغلاق الحدود وقطع العلاقات الدبلوماسية مع الرباط. ونحن نفعل كل ما بوسعنا من أجل توفير وسائل الترفيه للشباب، لكي لا ينشغلوا بما لا نفع لهم فيه. ولكنهم عنيدون. وكلما أطلقنا سراح بعضهم لكي نُظهر لهم عطفنا وكرمنا، زادوا في تحريضنا على اعتقال آخرين.
وهذا وضع سوف يؤدي بالبلاد إلى مجيء رئيس قد يُعلن البيروسترويكا، ويهدم جدار برلين بيننا وبين المغرب. وهذا منقلب خطير إذا حدث، ويجب منعه لأنه يهدد وحدة البلاد. ولقد اتبعنا كل الوسائل من أجل إقناعهم بأن الجزائر أكبر مساحة من أوروبا الغربية، ويمكنهم التجول في مدنها من دون قيود، ولكنهم ظلوا يعقدون العزم على طلب الرحيل من البلاد. وهم جيل ناكر للجميل. فنحن إذا كنا ورثنا السلطة وتداولناها في ما بيننا، فلأننا كنا رجال التحرير.
أين كان هؤلاء الشباب عندما كنا نقاتل الاستعمار؟ إنهم لم يكونوا موجودين أصلا. فإذا بهم يطالبون بحقوق ونمط عيش مختلف، على اعتبار أنهم ‘جيل جديد’. ونحن نعترف أنهم جيل جديد، ولكن أليس من الأخلاق أن ينتظرونا حتى ينقضي بنا الأجل؟ وما العيب في أن يُحكموا بجيل سبعيني أو ثمانيني طالما أنه ما يزال قادرا على العطاء؟ ولماذا يريدون التغيير، بينما لديهم قنوات تلفزيونية يمكنهم تغييرها بكبسة زر، فلا يشاهدوننا ولا نشاهدهم؟”.
هذا الجيل، ترك التتمة (فلا بد أن يستجيب القدر) في التظاهرات التي رحلت. ووجد نفسه مضطرا لكي يضع محلها (فلا بد أن يستجيب السفر)، ولو في حجرة العجلات
بعد حزمة الحجج القوية هذه، تظل هناك حاجة إلى بعض الإجراءات المهمة لمنع حصول البيروسترويكا والاستفادة من تجارب الاتحاد السوفياتي السابق. ومنها:
1ـ تقديم برامج تلفزيونية تعليمية حول طبيعة الحجرات في الطائرات. وكيف أن درجة الحرارة فيها تنخفض إلى مستويات قد تصل إلى ناقص 40، حسب الارتفاع. أما حجرة العجلات فإنها لا تتسع لشخص واحد، لأنها ليست مصممة لنقل ركاب إضافيين. ولأن قوة سحب العجلات يمكنها أن تهرس العظام.
2ـ تقديم محاضرات حول المتاعب الجمة التي يتعرض لها المهاجرون إلى الدول الغربية، لاسيما من أعمال التمييز العنصري، والبطالة، والتشرد. وتقديم شهادات حية تثبت أن الحرية ليست كل شيء. وأن وفرة البطاطا خير من وفرة الحق بالكلام.
3ـ بناء وكالات سفر تقوم بتنظيم رحلات إلى الدول المتقدمة مثل تركيا وإيران للتعرف على طبيعة الحياة فيها. وهو مما يمكنه أن يساعد في تحقيق غايتين: التعرف على الحضارات الأخرى. وتطبيق نظرية “من رأى مصيبة غيره، هانت عليه مصيبته”.
4ـ إثبات أن قادة البلاد ما يزالون شبابا بإظهارهم يمارسون الرياضة، ومنها رياضة الجري ولعب كرة القدم، وكيف أن فريقهم يفوز دائما أمام أي منتخب وطني أو أجنبي، حتى ولو لعبوا بـ20 في المئة من قواهم البدنية. وهذا ما سوف يساعد في إضافة مصداقية، لا لبس فيها، على جدارة كل فوز انتخابي لا يتعدى هذه النسبة.
5ـ منافسة الشباب على متابعة وسائل التواصل الاجتماعي. حتى ليمكن لرئيس أركان الجيش أن يكرس صفحته على فيسبوك وتوتير لتقديم نموذج شبابي للمشاغل والاهتمامات، بل وأن يبادر إلى بناء عالم من “الميتافيرس” يجتذب من خلاله شعبا وأصدقاء من كل الأعمار، يؤيده في الاستعداد لخوض المعركة ضد “العدو”.
6ـ مقاطعة المناسبات الرياضية الدولية لكي لا تُتخذ كذريعة للهرب. وهناك عذر سهل. فكل مسابقة يشارك بها المغرب، يمكن مقاطعتها. والاكتفاء بتنشيط المباريات المحلية، وتقديم بطاقات مجانية للجمهور للسفر مع فريقهم عندما يخوض مباريات في ولاية أخرى. وإذا نشب نزاع بين المتحمسين، فيمكن النظر إلى فوائده على اعتبار أنه “تدخل خارجي” و”مؤامرة” يحوكها المغرب ضد استقرار البلاد.
7ـ تنشيط مؤسسة “سفراء شباب الجزائر” لتعميق الوعي بين الشباب. فرئيسها قال ذات يوم “نعيش معركة وعي بدون معرفة السبب وراء ارتفاع وندرة المواد الأساسية. لماذا دائما يتم استهداف المواد الغذائية الأساسية، هل هي من أجل تهييج الشعب؟”. والجواب هو: نعم، إنها “لتهييج الشعب”، لا لتوفير المواد الغذائية. فالمسألة هي مسألة وعي، وليست مسألة توفر تلك المواد أو عدم توفرها.
8ـ إعادة تذكير متظاهري الاحتجاجات الذين رفعوا شعار “جئناكم لترحلوا”، بأن شعارهم تحقق عندما استجاب له النظام وتبناه، فرحلت التظاهرات وبقي النظام.
هذه وغيرها من الإجراءات، سوف تساعد في معالجة المشكلة التي يعانيها جيل الحرية والتحرير والاستقلال مع جيل المؤامرات والتخريب الساعي إلى الهرب من البلاد.
إنهما جيلان مختلفان تماما، حتى تكاد لا تعرف كيف يعيشان في بلد واحد. أحدهما يتحدث الفرنسية ويهتف “يا فرنسا إن ذا يوم الحساب، فاستعدي وخذي منا الجواب”، والثاني يتحدث العربية ويهتف “إذا الشعب يوما أراد الحياة”.
هذا الجيل، ترك التتمة (فلا بد أن يستجيب القدر) في التظاهرات التي رحلت. ووجد نفسه مضطرا لكي يضع محلها (فلا بد أن يستجيب السفر)، ولو في حجرة العجلات.