قبل المسارعة لتوجيه النقد إلى ما قامت به حكومة الإسلاميين السابقة، لا بد أولا من تقييم الترتيبات التي اتخذتها الحكومة الحالية والمتعلقة بالأمن الغذائي وتأمين الطاقة وفرص العمل في ضوء ما تشهده أسواق العالم من ندرة، وما هي الحلول التي ستقدمها وكيفية التعامل مع الموارد البشرية والمادية التي ينتظر منها إنجاز تلك السياسات.
فارتفاع الأصوات الصادرة عن حزب العدالة والتنمية بالنقد لا يعني بالضرورة استيعابها لكامل تفاصيل الآلية التنظيمية للحزبين الأساسيين، الأحرار والأصالة والمعاصرة.
قد نتفق، رغم تعقيدات الوضع الحالي، حول ما يفترض بالحكومة وأحزابها القيام به، ولكن هذا لا يعني أن نتفق معها على ردود الفعل التي تبديها حيال كل كلمة ينطق بها عبدالإله بنكيران. ويحق لنا أن نتساءل كيف يمكن للحكومة أن تحقق أهدافها بردود فعل عاطفية مثل هذه؟
تناقضات بنكيران كثيرة، وقراراته التي اتخذها ومعه أعضاء حزبه في الحكومتين السابقتين لم تكن غالبا في مصلحة المواطن المغربي. هذا مفهوم ومعروف. وليس سرا ما قاله يوما من أنه نادم لعدم حذف مادة السكر والدقيق وغاز البوتان المستعمل في الطهي من صندوق المقاصة (الدعم). وهو ما يؤكد أنه خطط للتخلص يوما من صندوق دعم المواد الاستهلاكية الأساسية التي تضخ فيه الدولة ميزانيات كبيرة حفاظا على السلم الأهلي.
على حكومة عزيز أخنوش بذل الكثير من الجهد في تحقيق الفاعلية وتعزيز الخدمات التي يحتاجها المواطن، بدلاً من تكرار الجدل حول جودة السياسات التي انتهجتها حكومة الحزب الإسلامي
ولا أدل على فقدانه الأهلية السياسية من قوله بعد أسبوعين إنه نادم على إخراجه المحروقات من صندوق الدعم؛ فهو لم يكن يتخيل، حسب قوله، أن تصل الأسعار إلى حد يرهق فعلا طبقات الشعب. ولنا أن نتخيل كيف سيكون الوضع لو تم رفع الدعم عن المواد الاستهلاكية الأساسية الأخرى. هل سيكون بنكيران حينها مبتهجا وهو يرى جموع المواطنين تحتج على ارتفاع ثمن الخبز والسكر؟
لقد واجهت الحكومة الحالية، التي يقودها حزب التجمع الوطني للأحرار، مجموعة متنوعة من التحديات، رغم أنها لم تنه عامها الأول بعد، لهذا لا بد لأحزاب الأغلبية الآن الانتباه إلى الضوابط والتوازنات التي تحد من سلطة العدالة والتنمية إعلاميا، بعد أن وضعت صناديق الانتخاب حدا لتدابير الحزب السياسية على المستوى الوطني، واستقلت أحزاب الحكومة في النهاية من هيمنة ما يمكن تسميته بـ”البعبع البنكيراني”. وأثبتت أنها الأكثر قدرة على التقاط مؤشرات الحكم الرشيد خلال فترة حكمها هذه. وقد تتابع نهجها خلال فترة حكم أخرى مدعومة بنَفس سياسي قوي أيضا.
في الدورة السادسة والعشرين للمجلس الوطني لحزب الأصالة والمعاصرة، التي عقدت مؤخرا، شهدنا تركيزا قويا من طرف قواعد الحزب على ضرورة مواصلة التعبئة واليقظة واتخاذ المزيد من الإجراءات والتدابير المستعجلة للتخفيف من الآثار السلبية لندرة المياه وارتفاع أسعار المحروقات وانعكاساتها على أساسيات الحياة اليومية للمواطن، وذلك بتكثيف الجهود واستنباط حلول للأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحادة، لاسيما في المناطق والأقاليم الهشة.
خطوة ذكية من جانب قواعد حزب الأصالة والمعاصرة، في وقت تصر فيه قيادة الحزب، ومعها قيادة التجمع الوطني للأحرار، على النظر إلى الوراء والعودة إلى ما قامت به الحكومة السابقة، باعتبار ذلك طوق نجاة يعفي الأحزاب من تحمل مسؤولياتها أمام التحديات التي تواجهها الحكومة التي يقودونها حاليا.
ونسوق للدلالة على ذلك التحدي ما قاله في ردة فعل سلبية وارتجالية عضو المكتب السياسي للأحرار، الطالبي العلمي في كلمة له خلال أشغال الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الجهوي لحزب التجمع الوطني للأحرار بجهة الرباط – سلا – القنيطرة، من أن بنكيران “عوض تقديم بدائل اقتصادية وبدائل لتطور المجتمع، يسب الأشخاص ويخضعهم للتقييم”.
ينسى القيادي في حزب الأغلبية الذي يرأس مجلس النواب أنه يقدم هدية مجانية عندما يرد على تحية بنكيران بكتاب مفتوح من التصريحات المضادة، متناسيا أن بنكيران أقام مجده الانتخابي على البوليميك السياسي ونجح في ذلك إلى أبعد الحدود.
تناقضات بنكيران كثيرة، وقراراته التي اتخذها ومعه أعضاء حزبه في الحكومتين السابقتين لم تكن غالبا في مصلحة المواطن المغربي
في طرح حجتهما لم يكن على حزبي الأحرار والأصالة والمعاصرة الإفراط في التركيز على تصريحات سياسية يعرفون أنها شعبوية وتحقق أهداف صاحبها في إفشال الطرف الآخر وتعطيل عمله، بدل التركيز على السياق السياسي والمعايير التنظيمية وقيود الموارد باعتبارها هي ما يحدد النتائج، لتأتي أفضل مما هو متوقعًا.
في خضم عدم اليقين الذي يخيم على كل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة حصرا بالمتغيرات الدولية، خصوصا ما تعلق منها بأزمة المحروقات الناجمة عن الحرب في أوكرانيا التي تركت آثارها على إمدادات الطاقة والغذاء، يتطلع المواطن إلى تنفيذ البرنامج الحكومي والانتخابي من قبل الحكومة والإدارات التابعة لها، والاهتمام أكثر بملفات الفساد والمحاسبة، بدلاً من تكرار الجدل حول السياسات التي انتهجتها حكومة الحزب الإسلامي في دورتين سابقتين.
وتلقفت الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية المناسبة بشكل براغماتي، عندما وجهت انتقادا شديد اللهجة إلى حزب التجمع الوطني للأحرار والحكومة التي يرأسها، مؤكدة أنه خلال الانتخابات تم الترويج لوعود كبيرة، لنواجه بدل ذلك موجة غلاء غير مسبوقة.
لا شك في أن الحكومة السابقة كرست الكثير من الوقت والجهد والمال في عمل لا شيء، وهنا يتوجب على حكومة عزيز أخنوش بذل الكثير من الجهد في تحقيق الفاعلية وتعزيز الخدمات التي يحتاجها المواطن، والبحث في مدى تنفيذ السياسات من قبل الإدارات التابعة لها، بدلاً من تكرار الجدل حول جودة السياسات التي انتهجتها حكومة الحزب الإسلامي.
لقد أثبتت أزمة كورونا، إلى جانب التحديات الحالية، أن أكثر ما يهم المغاربة لا يمكن قياسه أو وصفه بسهولة من الناحية الاقتصادية أو المالية؛ فقد لفتت الأزمة الانتباه إلى مجموعة من القضايا مثل الصحة العقلية والجسدية، والعنف الأسري، والصلات الاجتماعية، والأمن الوظيفي، ورعاية الأطفال، كما سلطت الضوء على أوجه عدم المساواة طويلة الأمد، والعمل الأساسي منخفض الأجر، والاختلالات بين الجنسين في مسؤوليات تقديم الرعاية، والفجوات في شبكة الأمان الاجتماعي.
وقبل التعلق بلازمة فشل حكومة الإسلاميين وإضاعة الجهود في تصيد تصريحات قيادة العدالة والتنمية، هناك أولوية للتعامل الذكي والحاسم مع القضايا التي تهم مستقبل البلاد وأمنها، ولا بد للأحزاب الثلاثة التي تشكل التحالف الحكومي الحالي من الخروج من شرنقة تصيد الأخطاء والاهتمام بشكل جدي وحصري بما تحمله ورش تعميم الحماية الاجتماعية التي أطلقها العاهل المغربي الملك محمد السادس من جواب فعّال وحيوي لأمن المواطن المغربي.