بعد انغلاقها على نفسها لسنوات، من المنتظر أن تتحرك الجزائر دبلوماسيا لاستثمار أزمة الطاقة التي خلفتها الحرب الروسية على أوكرانيا في محاولة يرى العديد من المحللين أنها لكسر العزلة، فيما يرى آخرون أنها تندرج ضمن اضطلاع السلطات بدورها الطبيعي حتى وإن كان ذلك لتلميع صورة النظام ولبحث سبل النهوض باقتصاد البلاد المأزوم.
دفعت التداعيات التي أفرزتها الأزمة الأوكرانية بالجزائر إلى الخروج من قوقعتها التي فرضتها عليها ظروف مختلفة طيلة السنوات الأخيرة، فكان الغاز بمثابة حبة الحصى التي حركت المياه الراكدة، رغم ما للمسألة من مخاطرة وصعوبة في التوفيق بين طرفي الأزمة، فهي ملزمة بالسير على حافة دقيقة لا تحتمل الميلان لأي جهة، فلا يمكن أن تفكر أن تكون بديلا للطاقة الروسية، ولا أن تتجاهل حاجة الأوروبيين إلى المزيد من الغاز، وفوق ذلك هي أيضا أمام فرصة تاريخية لتحقيق المزيد من العائدات لتحريك عجلة الاقتصاد المشلول وتلبية الحاجيات المحلية المتصاعدة.
زيارتان في الأفق للرئيس عبدالمجيد تبون إلى روسيا والصين، بعد استقبال منتظر لنظيره الفرنسي قريبا، تعيدان الزخم الدبلوماسي إلى بلد انكفأ على نفسه لأسباب مختلفة طيلة السنوات الأخيرة، لكن ذلك يأتي في سياق تتضارب فيه التأويلات بين من يرى هذه التحركات مجرد كسر للعزلة وتبييض لصورة نظام سياسي مأزوم داخليا، وبين من يراها اضطلاعا بدور طبيعي رغم ما يحمله من تكلفة.
وتعمل الدوائر السياسية والإعلامية الموالية للسلطة في الجزائر على استثمار المكاسب المتتابعة للرئيس تبون في تركيا وإيطاليا لتلميع صورة نظام سياسي مهزوز الشرعية، ويحاول تحقيق نقاط جديدة في سلم الشرعية الشعبية، من خلال إطلاق مبادرة سياسية لا زالت غامضة إلى حد الآن حول لمّ شمل الجزائريين، الأمر الذي يعد اعترافا بأن الوضع السياسي الداخلي يحتاج إلى ترتيب وتقليص لفجوة القطيعة بين السلطة والمعارضة.
وفي ظل هيمنة الخطاب الواحد، يبقى تقييم تلك المكاسب بعيدا عن التحليل المحايد، لأن إبرام 15 اتفاقية تعاون مع تركيا يبقي الكفة مائلة لصالح إسطنبول، فيطرح تركيا في وضع المنتج والجزائر في وضع السوق الاستهلاكية، والحديث عن أموال تركية في الجزائر لا يزال بعيد المنال، وإن حديث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن نمو المبادلات بين البلدين بنحو 35 في المئة وعن وجود 1300 شركة تركية في الجزائر يتوجب التساؤل عن المقابل وعن عدد الشركات الجزائرية في تركيا.
ورغم أن الرهان الجزائري في الظرف الحالي يبقى مربوطا بما تحققه شركة سوناطراك النفطية فقط، فإن الاتفاق المبرم مع شركة “إيني” سيصنع من إيطاليا قطبا طاقيا في أوروبا انطلاقا من الجزائر، وتبقى إمكانيات التحويل والتكرير في حاجة إلى تفصيل لتكون المنفعة متبادلة بين الطرفين، بما أن بعض التكنولوجيات التحويلية يمكن أن تستخلص 200 دولار من برميل النفط الواحد.
وعلى منوال مشابه ينتظر أن تكون مخرجات الزيارات المنتظرة للرئيس تبون قريبا إلى روسيا والصين، حيث يراهن في الأولى على وثيقة التعاون الاستراتيجي المعمق المطروحة للإثراء، وعلى استثمارات ضخمة في قطاع المناجم تقدر بنحو سبعة مليارات دولار في الثانية، ويجري الرهان على بعث مشروع منجم غار جبيلات للفوسفات الذي يضع الجزائر كثالث احتياطي في العالم.
وعلى غير العادة في العلاقات الجزائرية – الصينية تم الإعلان في الجزائر عن إبرام اتفاق بين سوناطراك وسينوباك الصينية يقدر بنحو 500 مليون دولار للتنقيب واستغلال حقل نفطي في الصحراء الجزائرية، ليكون ذلك إيذانا بتحول جديد في الاستثمارات الصينية ودخولها حقل الإنتاج الطاقي في الجزائر.
لكن مع ذلك تبقى المصالح الجيوستراتيجية تملي على الجزائريين التحلي بقدرات عالية للتوفيق بين القوى المتنافرة، فالغرب يريد الاطمئنان على مصادر آمنة وموثوقة للطاقة، وروسيا لا تريد أن تضيع منها ورقة الغاز للضغط على خصومها الغربيين بسبب رغبة شريكها الاستراتيجي والتاريخي في شمال أفريقيا لاستغلال فرصة الطفرة الجديدة لتحقيق مزيد من العائدات، رغم أن التصريحات الاستهلاكية للدبلوماسية الروسية تتحدث على “عدم انزعاج موسكو من الغاز الجزائري الإضافي”.
وفي هذا الشأن كشف موقع “أتاليار” الإسباني أن رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي أجرى اتصالا هاتفيا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أعقاب الاتفاق المبرم بين بلاده والجزائر، ولم يتم الكشف عن فحوى المحادثة، وعما إذا كان قد تناول مضمون الاتفاق المعلن مع الجزائر، ولو أن موسكو تزعم بأنها لم تنزعج من الجزائر رغم أخذ الأخيرة لمكانها كـ”شريك طاقي أساسي لإيطاليا”، لكن من غير المستبعد إطلاع الروس على فحوى الاتفاق.
وكان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قد صرح لإعلام بلاده بأن “الجزائر قدمت مبادرة لروسيا تقضي بتسجيل المستوى الجديد للعلاقات بين البلدين في وثيقة بدأ الإعداد لها، وأن البلدين أجريا محادثات جيدة للغاية وطويلة مع الرئيس تبون ووزير الخارجية رمطان لعمامرة، أين أكدنا أن علاقاتنا منذ سنوات طويلة تقوم على إعلان الشراكة الاستراتيجية الذي وقعه الرئيسان في عام 2001”.
وأضاف “ومنذ ذلك الحين، تطورت علاقاتنا بشكل مكثف للغاية، بطريقة شبيهة بالشراكة حقا، وتم تطويرها بشكل استراتيجي في عدد من المجالات، وأن الحوار السياسي المنتظم والتجارة والاقتصاد أفضت إلى نمو التجارة بعدة نقاط مئوية العام الماضي لتتجاوز 3 مليارات دولار، على الرغم من عواقب الوباء”.
ولفت المتحدث إلى وجود استثمارات مشتركة وعمل مشترك في إطار أوبك+ ومنتدى الدول المصدرة للغاز، وعلاقات تقنية عسكرية غنية جدا، وكذلك التبادل الثقافي والإنساني، وهو ما أفضى إلى التوصل إلى “استنتاج أن علاقاتنا تصل إلى مستوى جديد ويجب تسجيل ذلك في وثيقة جديدة بدأنا الإعداد لها”.