رفضُ الجزائر للوساطة السعودية من أجل تسوية الخلاف مع المغرب، شيءٌ ثقيل، ليس دبلوماسيا فحسب، ولا سياسيا فحسب، ولكن إنسانيا أيضا.
وهو شيء ثقيل ليس بشأن العلاقة مع المغرب. إنه ثقيل بالعلاقة مع السعودية نفسها. فهذا بلد لا يُردّ عليه بالطريقة التي رد فيها وزير الخارجية رمطان لعمامرة عندما سئل عن الوساطة التي قام بها وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان بن عبدالله آل سعود، فقال بخشونة لا تليق بالدبلوماسية الجزائرية نفسها “لا وساطة مع المغرب سواء أمس أو اليوم أو غدا”.
ما قد لا يعرفه الوزير لعمامرة، هو أن السعوديين، أمراؤهم وعامتهم، يأخذون الوساطات ليس بمعناها الدبلوماسي فقط، ولكن بمعناها الشخصي أيضا. ولهذا السبب فإن ردّهم خائبين أمر ثقيل.
وألّا يعرف لعمامرة ذلك، “فتلك مصيبة”. أما إذا كان يعرف “فالمصيبة أعظم”.
تخيّل الأمر على النحو التالي: يأتي إليك شيخُ قبيلة حاملا وقاره، ونفوذه، وسعة يده، ليطلب منك أمرا، أيا كان. فإن آخر شيء يمكن أن تفعله هو أن ترده خائبا. يمكن أن ترفض. ولكن ليس بهذه الطريقة. تستطيع أن تقول له، في واحدة من الطرق “إن وساطتك مقبولة ومكانتك عزيزة، ولكن دعنا نفكر، لعل الله عز وجل يُيسر لنا أمراً”. كما يمكن أن تقول له، بطريقة أخرى “إن ما نشعر به من الأذى كبير (بافتراض أن هناك أذى أصلا)، ونتمنى عليك أن تساعدنا في أزالته أولا، ولسوف نقبل بما تراه من بعد ذلك”. كما يمكن أن تقول بطريقة ثالثة “أبشر. ولكن إخوتنا المغاربة يتعين أن يتوقفوا عن كذا وكذا وكذا”، وتطيل قائمة الـ”كذا والكذا” إلى الحد الذي يقتنع فيه الوسيط، أنك لم ترفضه هو، ولكنك تريد من الطرف الآخر الكثير من المطالب.
وطرق التّمنع كثيرة. ولكن لا يحسن أن تبدو وكأنها “رفض”.
المغرب قدم دلائل، بهذه الوساطة، على رغبته بإنهاء الأزمة، وعودة مياه العلاقات بين الجارين إلى مجاريها الطبيعية، بل وأن يقدم ما قد ترغب به الجزائر من ترضيات أخوية
ثم ماذا تعتقد أن ذلك الشيخ سيفعل عندما يعود إلى داره؟ لا أريد القول إنك سوف تكسب غضبه، ولكن سوف يتعين عليك أن “تفصل” له هو، دع عنك موضوع وساطته. وقد لا يرضى عنك حتى ولو ذبحت له قطيعا من الإبل.
ستقول إن هذا ليس أمرا من أمور العلاقات بين الدول. سوى أن هذا الافتراض غير صحيح مرتين.
الأولى، هي أن العربي يظل يأخذ الأمور بمعاييره وتقاليده ومفاهيمه الخاصة، التي يحترمها حتى الأجانب، لأنها مذكورة في دفاتر البرتوكولات والأعراف الرسمية.
والثانية، تتعلق بمكانة الطرف الوسيط في محيطه الإقليمي. فحتى ولو كنت تعتقد أنك نزلت من سطح القمر، تظل السعودية هي السعودية في النهاية، قوة عربية هي الأكبر، ويقودها رجل لا تُردّ له كلمة. يمكن أن لا تتوافق معه، بالقليل أو الكثير، ولكن يقتضي الواجب أن تعبر عن ذلك بحذر يشكل الاحترام 99 في المئة من معناه ووسائل التعبير عنه.
ودعك من المغرب. إذ يمكن لهذا البلد أن يغسل يديه من الأمل بتسوية الخلاف. ولكن المشكلة الآن مع السعودية.
ومن الواضح أن المغرب قدم دلائل، بهذه الوساطة، على رغبته بإنهاء الأزمة، وعودة مياه العلاقات بين الجارين إلى مجاريها الطبيعية، بل وأن يقدم ما قد ترغب به الجزائر من ترضيات أخوية، تؤكد احترام البلدين لمصالحهما وسيادتهما.
إلا أن موقفا يتسم بالعناد والتشدد، لا يمكنه أن يخدم رغبات الجزائر نفسها، ويقدمها كطرف يمارس دبلوماسية ذات طبيعة خشنة، لكي لا نقول عدائية.
ما لا تحتاجه الجزائر في النهاية أن تضيف ضررا في العلاقة مع طرف وسيط، فوق الضرر الذي يلحق بالعلاقات بينها وبين المغرب.
هذا زائد عن الحاجة، حسب أدنى التقديرات. وهو لا يترك بابا مفتوحا للمستقبل. وطالما أن بعض التقاليد الدبلوماسية تقول “لا تقل لا أبدا”، فإن عالم اللاءات العربية قد ثبت فشله، ليس مرة ولا مرتين، بل عدة مرات. فضلا عن أن الـ”لا”، لا تُقال بين وسطاء الخير، لكي يغلقوا الباب يوم تحتاج أنت أن تجده مفتوحا.
خلال السنوات الأخيرة للرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة أخفت الجزائر ضعف دبلوماسيتها خلف حالة الفوضى التي كانت تعيشها البلاد. وكان يمكن لهذه الدبلوماسية أن تستأنف مع قدوم رئيس جديد، لكن لا شيء تحقق سوى مراكمة الإخفاقات.
والجزائر الآن هي بلد القمة العربية المقبلة، مما يُملي عليها نوعا من المرونة والسلوك التصالحي، لكي تضمن لها النجاح.
ولئن دأبت القمم العربية أن تركز في بياناتها على مفاهيم التضامن والتعاون وتعزيز الروابط الأخوية، حتى أصبح النص نشيدا يحفظه طلاب المدارس، فلا تعلم ماذا سيقول البيان الختامي لقمة الجزائر عن العلاقات الأخوية المقطوعة، وعن الأجواء الأخوية المغلقة، وعن الروابط الأخوية التي تمزقت مع المغرب.
الجزائر الآن هي بلد القمة العربية المقبلة، مما يُملي عليها نوعا من المرونة والسلوك التصالحي، لكي تضمن لها النجاح
وفي حين ترغب الجزائر بدعوة الرئيس السوري الذي دمر ثلاثة أرباع بلاده وهجّر نصف شعبه، وقتل أكثر من نصف مليون إنسان، بينهم الكثير ممن قضوا تحت التعذيب في السجون، انطلاقا من مبدأ “رأب الصدع”، فلن يكون بوسع أحد أن يفهم معنى أو مبرر الصدع مع بلد في الجوار يؤخذ على أساس اتهامات باطلة، أو يؤخذ بردود فعل مبالغ فيها، ثم تتطير بالمزيد فالمزيد من التصعيد.
وهب أن دبلوماسيا مغربيا أخطأ بكلمة، فردت عليه الجزائر بكل هذه القطيعة الشاملة. فماذا ستفعل، لو أنه أخطأ بكلمتين؟ هل ستطلق النار على المغرب بكل ما لديها من المدافع؟ ثم ماذا لو زادها كلمة ثالثة؟ هل ستلقي عليه قنابل نووية؟
جدير بالمرء أن يسأل: لماذا هذا كله؟ ما الذي جعل الدنيا تنقلب إلى هذا الحد؟
ويمكن للمرء أن يراهن على أن قمة عربية يغيب عنها المغرب لن تشجع العديد من القادة العرب على المشاركة في أعمالها، مما لا يليق بمكانة الجزائر أو تطلعاتها هي نفسها لما يفترض بهذه القمة أن تحققه.
ثم أن الذي يتعامل مع السعودية بهذه الخشونة، كيف يمكنه أن يتعامل بلطف مع الآخرين؟
سؤال لا أتوقع أن يتمكن لعمامرة من الإجابة عليه.
ولقد كان يفترض بهذه القمة أن تعقد في مارس الماضي. إلا أنها أرجئت لأسباب تتعلق بفشل الدبلوماسية الجزائرية عن أن تكون كما كانت. فهي أرادت أن تفرض جدول أعمال غير متفق عليه، وتثير موضوعات غير ذات صلة بالمشاغل الحيوية الراهنة، وأن تفرض تصورات تصلح لندوة أحزاب ثورية أكثر منها لقادة دول يقصدون البحث عن قواسم مشتركة. بينما كل ما يقترحه التطيّر حيال المغرب هو قواسم مشتركة.
ولا تعرف كيف يمكن، بهذا السلوك الخشن، لهذه القمة أن تعقد.
أتراها سوف تُعقد فعلا؟
سؤالٌ أحسب أن لعمامرة لا يملك جوابا عليه.