تدفع الأصوات التي بدأت تتعالى داخل حزب العدالة والتنمية المغربي بشأن ضرورة القيام بمراجعات إثر الهزيمة المدوية الأخيرة في انتخابات الثامن من سبتمبر إلى التساؤل عما إذا كان الحزب قادرا على الخروج من جبة الإسلام السياسي خاصة في ظل تأكيد العديد من القيادات على ضرورة تجاوز هذه المرحلة.
بدأت العديد من الأصوات تتعالى من داخل حزب العدالة والتنمية المغربي المصنف ضمن تيارات الإسلام السياسي الذي تكبد هزيمة في الانتخابات التي أجريت في الثامن من سبتمبر الجاري، للقيام بمراجعات تقضي بإعادة النظر في الأطروحات التي حكمت الحزب وعلاقته بالمجتمع والدولة ومدى تأثير حركة التوحيد والإصلاح على توجه الحزب ومستقبله السياسي.
والصعوبة الكبيرة التي يمر بها الحزب هي التعاطي مع أسباب الهزيمة بموضوعية ومقاربة المنطلقات والمرجعيات التي بنى عليها قياديّو العدالة والتنمية مشروعهم، مع طريقة تدبير الشأن السياسي بإكراهاته وتحدياته.
ويعتبر الأمين العام للحزب سعدالدين العثماني أن في أدبيات حركة التوحيد والإصلاح الذراع الدعوية للحزب، الدولة والمجتمع لا يخرجان عن صفتهما الإسلامية، وأن مبرر العمل الإسلامي هو الإسهام في إعطاء مضمون لهذه الصفة في الواقع والإسهام في تقويم الوهن في عرى الدين.
والجملة الأخيرة في كلام العثماني تزيد من غموض علاقة الحزب السياسي بما هو دعوي والذي يعيد إلى الأذهان ما تطالب به جماعات إسلامية في المشرق بـ”إقامة الدولة الإسلامية” وبروز الحديث عن خطاب الإسهام في إقامة الدين بدل خطاب إقامة الدولة، والخروج عن مبدأ المنهج الإصلاحي في التغيير، وعلى ما يعتمل داخل العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح والتحولات في ذهنية بعض قيادات الحزب والجماعة التي تقول بالعودة إلى المراجعات النظرية والفكرية وتبني خطاب حقيقي غير ملتبس من الديمقراطية والقبول بالآخر والتعددية الحزبية والعلاقة مع السلطة.
ويطرح ذلك تساؤلات عن القدرة على تحقيق هذا المنحى، أم أنها مجرد صحوة المهزوم التي سيتم تجاوزها بالإبقاء على المرجعيات والمنطلقات، وأيضاً إذا ما ستكون هزيمة العدالة والتنمية دفعة للخروج من مرحلة الإسلام السياسي إلى مرحلة “ما بعد الإسلام السياسي”، كما يقول القيادي عبدالعالي حامي الدين.
عقدة الانتماء
عبدالعالي حامي الدين: الخروج من الإسلام السياسي يبقى ضرورة لتحقيق الاندماج
يبحث عدد من القيادات داخل العدالة والتنمية عمّا يسمونه وضوح الرؤية السياسية لحزبهم بعد هزيمة انتخابية غير مسبوقة، والدخول خلال المرحلة القادمة في عملية وضوح يرونها مقترنة بتجديد الخطاب السياسي والقطيعة مع نمط التفكير. ويفسر هؤلاء الهزيمة بإخفاق الجيل المؤسس في تحقيق الاندماج الكامل أو التطبيع الشامل مع أولويات النظام السياسي ومؤسسات الدولة المركزية، وإخفاقه في بناء تحالفات سياسية على أرضية مصالح متبادلة.
ويتفق عدد من القيادات على العمل على أطروحة نظرية جديدة مع التحلي بالنقد الذاتي والوضوح والصراحة، والجرأة في التعبير، دون التورط في القراءة التآمرية للشروط التي أحاطت بالحزب في الانتخابات.
ويعتقد القيادي البارز عبدالعالي حامي الدين أن الخروج من مرحلة “الإسلام السياسي” إلى مرحلة “ما بعد الإسلام السياسي” يبقى ضرورة حتمية لتحقيق الاندماج، وهو ما لا يمكن تحقيقه عن طريق التناوب من داخل جيل التأسيس، حسب قوله.
ويرى حامي الدين أن عقدة الانتماء التاريخي للحركة الإسلامية لم يسمح للجيل المؤسس بتجاوز مجموعة من المفاهيم والمقولات النظرية وأيضا بعض الاختيارات السلوكية التي خلقت حواجز ثقافية ونفسية مع فئات سياسية واجتماعية معينة لها اختيارات أخرى مختلفة في نمط الحياة والمعيش اليومي.
ويقول منتصر حمادة مدير مركز المغرب الأقصى للدراسات والأبحاث والباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، إن ما صدر عن القيادي بالعدالة والتنمية يصب في اتجاه إثارة النقاش النظري الخاص بالمشروع الإخواني في المغرب بعد منعطف الثامن من سبتمبر الذي يؤرخ لفشل بنيوي في المشروع نفسه، ما تسبب في هزيمة كبيرة ومفصلية، أصبح الحديث عنها متداولا حتى عند إسلاميي المنطقة، لحكم طبيعة الأفق الإقليمي للمشروع الإخواني بما يفسر أولى التفاعلات الصادرة عن إخوان المنطقة، في إطار ما يمكن تسميته بالمراجعات التنظيرية والعملية، حيث هناك دعوات داخل حزب العدالة والتنمية تقضي بإعادة النظر في الأطروحات التي حكمت الحزب وعلاقته بالمجتمع والدولة ومدى تأثير حركة التوحيد والإصلاح على توجه الحزب.
وأوضح منتصر حمادة في تصريح لـه، أن “أزمة الإسلاميين في المغرب، سواء تعلق الأمر بالإسلاميين المعترف بهم رسميا أي حركة التوحيد والإصلاح بذراعها السياسية حزب العدالة والتنمية أو جماعة العدل والإحسان، هي أزمة بنيوية تهم طبيعة الأدبيات التي أسست للأيديولوجيا الإسلامية بشكل عام وهي أدبيات تنهل من أدبيات الإخوان في المنطقة، بالنسبة إلى التيار الأول، أو أدبيات تتقاطع مع أدبيات الإخوان، ولكن مع إضافة أدبيات صوفية، ونهل من التجربة الشيعية، وأدبيات الخلافة على منهاج النبوة مع التيار الثاني، وفي الحالتين معا نحن إزاء خطاب إسلامي حركي أيديولوجي لا يستوعب طبيعة ومميزات الدولة الوطنية في الساحة المغربية، ومعها مميزات النظام السياسي المغربي وطبيعة ثنائية الدين والسياسة في المغرب”.
وفي هذا السياق يقول حامي الدين إن الانخراط في التدبير الحكومي لولايتين متتاليتين كشف أن نوعية الإدماج السياسي للحزب ما زال محكوما بتوجس حقيقي لم تنجح عشر سنوات من الحكم في تجاوزه، وهو ما ينبغي تسليط الضوء على أسبابه العميقة إذا تم تجاوز نمطية التفكير التي وضعها الجيل المؤسس والتي تجعله أسير النشأة التاريخية للحركة الإسلامية غير القادرة على تجاوز تداعياتها ومقارنتها مع حركات إسلامية أخرى تميزت علاقتها بأنظمتها السياسية بتوترات عنيفة وصلت إلى درجة خوض معارك استئصالية ضدها.
لكن مدير مركز المغرب الأقصى للدراسات والأبحاث يذهب بعيدا في تفسيره لما يقع للعدالة والتنمية بشكل خاص والعدل والإحسان بشكل عام، بأنهم “يجهلون كليا الخصوصية المغربية في تدبير ثنائية السياسي والديني، والتي جعلت مؤسسة إمارة المؤمنين تجمع بين التقليد والحداثة، أو التراث والحداثة منذ سنة 1962 وأحد أهم أسباب فشل الأحزاب الإسلامية هنا في المغرب، بصرف النظر عن أسباب فشلها في باقي دول المنطقة، أنها لم تستوعب هذه الخصوصيات الثقافية والدينية في المغرب، أي في دولة توصف أساسا بأنها دولة الأولياء والصلحاء والعلماء، وبالتالي الحديث عن مراجعات أقرب إلى ترف فكري، طالما لم يتحرر هؤلاء من تأثير الأدبيات الإخوانية، إلا إن كانت المراجعات الحقيقية هنا، تفضيلا إلى أفول الأيديولوجيا الإسلامية في نسختها المغربية”.
من جهته يؤكد رشيد لزرق أستاذ العلوم السياسية على وجود خلافات حادة في المنطلقات التي تمثل هوية حزب العدالة والتنمية الذي ظل يخفي غايات متناقضة من خلال طول مرحلة التسيير التي أفرزت تجمّع مصالح مختلفة على شاكلة شركات تسعى لتحقيق الأرباح ومراكمتها.
وأشار لزرق في تصريح لـه، إلى أن آليات تصريف المواقف وتدبير الخلافات داخل العدالة والتنمية لا تكون من خلال الأجهزة، بل تدبر من داخل الجماعة، والأجهزة تقوم فقط بتسويق القرارات لكي تظهر أنها ديمقراطية، ولتجاوز الخلافات داخل العدالة والتنمية توكل الأمور إلى شيوخ حركة التوحيد والإصلاح للتخفيف من حدتها.
صعوبة الافتكاك من الحركة الدعوية
يرى عدد من القيادات داخل حزب العدالة والتنمية وعلى رأسهم العثماني أن تنظيمهم السياسي استطاع منذ تسعينات القرن الماضي إحداث نوع من التمايز بين الدعوي والسياسي وخلق مسافة بين الحزب السياسي وحركة التوحيد والإصلاح باعتبارها هيئة دعوية مدنية.
ويرى هؤلاء أن هذا التمايز الذي نجحوا فيه إلى أبعد حدود كان جزءا من تحولات فكرية وتنظيمية وتصورات سياسية من النظام والمجتمع عرفتها الحركة الدعوية.
ومن مراجعات الحزب الاعتراف بأن الشأن الديني في الدولة من صلاحيات مؤسسة إمارة المؤمنين، وهذا ما دفع الدولة إلى مشاركة العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية عام 1997 وإن بشكل محدود، وتوسعت المشاركة بعد ذلك ليتبوأوا مراتب عالية في ولايتين انتخابيتين استطاعوا فيها أن يتحملوا مسؤوليات التدبير الحكومي إلى أن لفظتهم صناديق الاقتراع في الاستحقاق الأخير، الذي اعتبر هزيمة مدوية لحزب يتبنى أطروحة الإسلام السياسي.
وفي إطار ما يعتبر الخط الجديد من الإصلاحات داخل العدالة والتنمية اعتبر حامي الدين أن الجمعيات الدعوية التي تشتغل في المجال المدني لها حقلها ومجالها ومستلزماتها وخصوصياتها، ومن حقها أن ترسم أهدافها بمعزل عن مستلزمات العمل السياسي واشتباكاته وإكراهات الدولة وتحدياتها الخارجية. ويرى أن الواقع يفرض الانتقال إلى ترسيم المسافة الضرورية بين المجالين وفك ارتهان أحدهما بالآخر وذلك بشكل عقلاني ينطلق من خصوصية كل مجال وحاجته للاستقلال بذاته على كافة المستويات.
والواقع أن حكم العدالة والتنمية ومن ورائه حركة التوحيد والإصلاح وإن بشكل متستر، لم يستطع تمكين أعضاء الحزب والحركة معا من مفاصل الدولة والتغيير في طبيعتها، بل بينت التجربة أن الدولة بمكوناتها استطاعت إذابة مشروع الإسلاميين وإظهار إمكانياته في التسيير والتنظير. وهذا جعل عددا من القيادات من الصف الثاني يدعون إلى مراجعة الأساسيات في الخطاب والممارسة التي بنى عليها الحزب أرضيته الفكرية والسياسية.
منتصر حمادة: أزمة الإسلاميين تعود للأدبيات التي أسست للأيديولوجيا الإسلامية
فالدور الذي لا زالت تلعبه الحركة في التأثير على القرار داخل حزب العدالة والتنمية واضح، فبعد فشل عبدالإله بنكيران في تشكيل الحكومة في العام 2016، كانت فرصة للحركة بثنيه على الترشح لقيادة الحزب إلى حد الآن.
لكن ومع ذلك هناك من يرى أن الفصل بين ما هو دعوي وسياسي لدى العدالة والتنمية صعب جدا خصوصا في الحالة التي هو عليها الآن، وهي حالة ضعف وهزيمة سياسية وانتخابية، وكل ما قيل عن أن العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح منفصلان فهذا ضرب من اللاواقعية السياسية كون الحاضنة الأساسية للحزب السياسي هي الحركة الدعوية.
فطريقة التفكير تنعكس على الممارسة وهذا ينطبق على عدد كبير من القيادات الذين ترعرعوا داخل الحركة ونهلوا من مبادئها وأفكارها وانتقلوا لتوظيفها في الساحة السياسية.
ويرى رشيد لزرق أن “حزب العدالة والتنمية مدعو للإجابة عن سؤال محوري يفرضه السياق السياسي بعيدا عن منطق الضبابية والذي يفرض عليه التمييز بين العمل السياسي والعمل الدعوي، فما يقع اليوم يظهر بالملموس أن ادعاء التمايز لا يخرج عن كونه تكتيكا سياسيا فرضته المرحلة، تحت مبرر براغماتي صرف غايته إسقاط تهمة السعي للتمكين، وأملاه منطق الاندماج المؤسساتي والانحناء لضغوط يفرضها السياق الإقليمي المتمثل في فشل التجربة المصرية باعتبارها التنظيم الأم”.
ويتابع “السؤال الجوهري المطروح حاليا: هل العدالة والتنمية حزب سياسي مدني أم أداة وظيفية لحركة التوحيد والإصلاح الدعوية؟”.
وهنا يرى حامي الدين أن كل هذه المداخل تبقى عامة ومجردة إذا لم ينجح الحزب في تجديد خطه السياسي في إطار من الوضوح النظري الضروري لإعادة التموضع في الساحة السياسية كفاعل سياسي إصلاحي ديمقراطي حقيقي قادر على ممارسة وظيفة الوساطة والتمثيل السياسي دونما خلط بين ما هو دعوي وما هو حزبي.
والجمع بين الدعوي والسياسي لا يستقيم، لكون الدعوي يقوم على أساس هداية الأشخاص عن طريق كسبهم، أما السياسي فغايته هي المغالبة، والجمع بين الكسب والمغالبة يولد اللبس، لذلك يرى لزرق أن الإجابة على السؤال تفرضها المرحلة خاصة “ونحن نمر بمنعطف تحرير اللعبة السياسية وفق قواعد ديمقراطية واضحة، لتكريس الخيار الديمقراطي ضمن منطق تكافؤ الفرص بين الأحزاب الذي يفرض أن تُكيف قواعد اللعبة الديمقراطية في ظل موازين متكافئة، وليس ضمن موازين القوى السائدة والنافذة”.
ولكون الحزب السياسي يقوم على أساس مشروع تدبيري غايته الاستجابة لتطلعات الشعب المغربي، يفرض على الأحزاب المتنافسة عدم استغلال التواثب ومنها الدينية والتي تشكل المشترك لكل أطراف اللعبة السياسية المشتغلة وفق منطق الشرعية المؤسساتية، والتي تفرض الوضوح حول العدالة والتنمية إن كان أداة وظيفية لحركة دعوية أم هو حزب مدني.