يلف الغموض الأسباب التي دفعت السلطة الجزائرية لتغيير رئيس جهاز المخابرات، ففي حين ربطتها تقارير بفشل الرئيس السابق في استشراف تحول الموقف الإسباني تجاه قضية الصحراء المغربية، يرى متابعون أن السبب هو السعي لإنجاح مبادرة لم الشمل التي أطلقها الرئيس عبدالمجيد تبون.
طرح تعيين الجنرال جمال كحال مديرا جديدا لجهاز المخابرات (الاستعلامات والأمن الخارجي) في الجزائر فرضية إعادة ترتيب أوراق الدائرة الاستخباراتية في ظل التغيرات المتسارعة على الصعيد الخارجي وعلاقتها بالقرار الداخلي، لكنها لم تغفل فرضية بروز توازنات جديدة في هرم المؤسسة، على اعتبار أن المدير الجديد هو أحد جنرالات الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة.
أجرى الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون تغييرات على جهاز المخابرات حيث عين كحال (مجدوب) على رأس الجهاز خلفا لسلفه نورالدين مقري (محفوظ)، وأقال عقيدين بارزين في المديرية، وهما حسين بولحية وناصر حداد.
وينتمي العسكريون المقالون الثلاثة إلى ما يعرف بـ”صقور الجيش”، قياسا بدورهم في الحرب على الإرهاب خلال حقبة العشرية الدموية (1990 – 2000).
وجاءت كلمة قائد أركان الجيش الجنرال سعيد شنقريحة مقتضبة في حفل التسليم والاستلام، واكتفى بالإشارة إلى “التطورات الإقليمية والدولية التي تتطلب المزيد من اليقظة والحذر، فالقرار السياسي والدبلوماسي الداخلي يستند إلى المعطيات والبيانات التي توفرها الاستعلامات الخارجية”.
وإذ تزامنت تطورات داخلية لافتة مع مبادرة “لم الشمل” المعلن عنها في الجزائر، حيث تم تأكيد حكم الإعدام في حق ضابط الصف المنشق قرميط بونويرة، الذي كان يوصف بـ”العلبة السوداء” لقائد الجيش السابق الجنرال أحمد قايد صالح، وسجن الناشط السياسي رشيد نكاز مجددا ومحاميه عبدالقادر شهرة، فإن التغيير الذي طال هرم دائرة الاستعلامات الخارجية تزامن مع تطورات إقليمية تصدرتها الأزمة الجزائرية – الإسبانية.
جهاز المخابرات عاد بقوة إلى مفاصل الدولة، بعد تحييده تدريجيا خلال السنوات الماضية
ويبقى مصطلح “الخطأ الفادح” المستجد على صعيد تبرير السلطة لبعض التغييرات التي أجرتها مؤخرا في مؤسسات رسمية كالحكومة والجيش، هو الشماعة التي تعلق عليها التعتيم المنتهج لتلك القرارات، ومنها إقالة مقري.
وحاولت تقارير مختلفة البحث في أسباب ودلالات التغيير حيث ربطته مجلة “جون أفريك” الفرنسية بعدة أسباب، أبرزها فشل الجهاز في استشراف التحول في الموقف الإسباني تجاه نزاع الصحراء، والذي فجر أزمة غير مسبوقة بين البلدين، لكنها لم تستبعد علاقة القرار ببعض التطورات المتصلة بمبادرة لم الشمل، بعد تصاعد اتهامات معارضين مهاجرين لجهاز الاستخبارات بالعمل على توقيفهم أو تصفيتهم.
وكان الإعلامي السابق والناشط المعارض المصنف ضمن لائحة الإرهابيين المعلن عنها خلال الأسابيع الماضية هشام عبود قد كشف تعرضه إلى جانب ناشطين آخرين لمخطط تصفية، ومن غير المستبعد أن يكون قد تقدم بشكاوى للأمن والقضاء الأوروبي، وهو ما لم يصدر بشأنه أي تعليق عن الجانب الرسمي، لكن المجلة لم تستبعد ذلك في فرضية التغيير على رأس جهاز المخابرات، خاصة وأنه عمل يشوش على خطة لم الشمل التي يريد الرئيس تبون الوصول إلى تحقيقها قبل ستينية الاستقلال المصادفة للخامس من يوليو القادم.
وإذ يعد الفريق مقري من رموز الحرب على الإرهاب، الذي عاد للواجهة بعد التوازنات التي أفرزتها وفاة قائد الأركان السابق الجنرال أحمد قايد صالح، فإن كحال هو أحد المحسوبين على جناح بوتفليقة، فقد كان ظله طيلة 15 عاما عندما شغل منصب مدير الأمن الرئاسي، ولم تتم تنحيته إلا العام 2015 بعد حادثة الإقامة الرئاسية بضاحية زرالدة.
وكان شقيق والمستشار الشخصي لبوتفليقة السعيد قد تدخل شخصيا لإقالة مقري رفقة زميله في الحرس الجمهوري الجنرال محمد ملياني، بعد حادثة إطلاق النار في إقامة الرئاسة، وتم إسناد المهام للقائد الحالي للجهازين (الأمن والحرس) بن علي بن علي.
مصطلح “الخطأ الفادح” يبقى المستجد على صعيد تبرير السلطة لبعض التغييرات التي أجرتها مؤخرا في مؤسسات رسمية كالحكومة والجيش
وبين الترتيبات الداخلية والمتطلبات المهنية الخارجية، يبقى التغيير المستجد يراوح مكانه، في ظل التعتيم الذي يخيم على مسارات السلطة في الجزائر، ويطرح مدى قدرة الرئيس تبون على استعادة زمام المبادرة من دوائر القرار التي تنازعه الصلاحيات وتمارس عليه حتى الضغط.
وسجل جهاز المخابرات عودة قوية إلى مفاصل الدولة، بعد تحييده تدريجيا خلال السنوات الماضية من طرف بوتفليقة، حيث استعادت دائرة الاستعلامات الداخلية مهام الضبطية القضائية ومهامها في الدوائر الرسمية، في إطار توجه جديد لا يريد التفريط في الصلاحيات الموروثة للمؤسسة طيلة عقود الاستقلال.
وإذا كان التطبيع بين المملكة المغربية وإسرائيل قد أطاح برئيس الجهاز السابق واستخلافه بالجنرال المقال مقري، فإن تحول الموقف الإسباني تجاه قضية الصحراء المغربية قد جاء برئيس جديد لكن الظروف المحيطة بالتغيير الجديد لا تبعد فرضيات أخرى، لاسيما ما يتعلق بتهيئة المناخ السياسي والأمني لمبادرة لم الشمل، كونها تتصل بشكل كبير باستقطاب نشطاء ومعارضي الخارج.
ولم تكن مسالك الصلح في الجزائر مفروشة بالسجاد الأحمر، فقد سبق لما كان يوصف بصقور الجيش أن اعترضوا على عروض السلطة للإسلاميين بداية من قانون الرحمة الذي أطلقه بوتفليقة في منتصف تسعينات القرن الماضي، إلى الوئام المدني والمصالحة الوطنية للرئيس الراحل بوتفليقة في 1999 و2005، وسجلت حينها محاولات إجهاض لكن إرادة السلطة السياسية حينها كانت أقوى.