أخيرا سقطت آخر أذرع مرحلة الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، لتطوى بذلك واحدة من مراحل العمر السياسي للجزائر، بسجن رئيس أكبر النقابات العمالية السابق عبدالمجيد سيدي السعيد، الذي ظل يمثل القوة الاجتماعية المساندة للسلطة خاصة خلال حقبة بوتفليقة، فكان الرجل الثري الذي يتزعم تنظيم الطبقات العمالية الكادحة، والنقابي الذي يتحالف مع رجال المال والأعمال، وأحد أنصار الولاية الرئاسية الخامسة التي فجرت الشارع الجزائري في فبراير 2019.
قرر القضاء الجزائري إحالة الرئيس السابق للاتحاد العام للعمال الجزائريين إلى السجن المؤقت في انتظار استكمال التحقيق في قضايا فساد، ليكون بذلك آخر رموز حقبة بوتفليقة الذين انتهى بهم المطاف في السجن منذ العام 2019، والذي أثير حوله الكثير من الشكوك حول الحماية التي حظي بها طيلة تلك الفترة، بعدما بقي بعيدا عن المساءلة مما زاد في شكوك الشارع الجزائري حول ما سمي بـ”تصفية الحسابات بين أجنحة النظام”.
وألحق سيدي السعيد ونجلاه مساء الخميس الماضي بالمؤسسة العقابية بضاحية الحراش ليكون إلى جانب العديد من رموز نظام بوتفليقة، على غرار رئيسي الحكومة عبدالمالك سلال وأحمد أويحيى، وبعض رجال المال والأعمال والمسؤولين الكبار الذي كان حليفهم إلى وقت قريب.
حسابات الملياردير
الرجل الأول في المركزية النقابية إلى غاية العام 2019 عبدالمجيد سيدي السعيد، هو في الحقيقة واحد من الأغنياء الجدد في الجزائر، فهو ملياردير يتقمص دور المدافع عن العمال والموظفين، ويستغل منصبه وموقعه في التدخل لدى وزراء لصالح رجال أعمال، فتحول بذلك من نقابي بسيط يقيم في سكن عائلي عادي قبل 20 عاما، إلى ملياردير بل إلى واحد من أغنى النقابيين في العالم، وذلك تحت عيون أجهزة الرقابة والمساءلة الرسمية.
ولفتت معلومات ووثائق تداولتها صحف ومواقع جزائرية إلى ارتباط سيدي السعيد بشكل مباشر، بشركات خاصة في عاصمة النفط حاسي مسعود وبعض العواصم الغربية والعربية، الى جانب شركات خاصة مملوكة لرجال أعمال محليين أغلبهم يوجد في السجن حاليا.
وتضيف المصادر أن الرجل جمع ثروته الضخمة في الأساس في عهد بوتفليقة، ففي البداية حصل على أولى العمولات من بنك خليفة، ثم بدأ في التوسط لدى وزراء حكومات ووزارات بوتفليقة المتعاقبة منذ عام 2000 إلى نهاية عهدته على رأس الاتحاد العام للعمال الجزائريين تحت ضغط احتجاجات الحراك الشعبي، وكان الأمر لافتا أكثر منذ بداية عهد رئيس الحكومة المسجون أويحيى، أين تضخمت ثرواته بشكل مثير للانتباه إلى درجة أنه بات يعيش بطريقة لا تمتّ بصلة إلى حياة رجل نقابي يدافع عن العمال الكادحين.
◙ سيدي السعيد يمثل القوة الاجتماعية المساندة للسلطة خاصة خلال حقبة الرئيس بوتفليقة، فقد كان الرجل الثري الذي يتزعم الطبقات العمالية الكادحة ويتحالف مع رجال المال
وذكرت إفادة قدمها قيادي في الاتحاد العام للعمال الجزائريين، إلى وسائل اعلام محلية، أن مراسلات بنوك سويسرية تصل بانتظام إلى صندوق بريد خاص بنجل سيدي السعيد في العاصمة. وكانت قد ثارت ثائرة سيدي السعيد قبل سنة عندما اختفت إحدى المراسلات الخاصة بفرع بنك“ أتش أس بي سي“ في مدينة زيوريخ السويسرية، لاسيما وأنها تكشف عن تغيّرات في قيمة ودائع عبدالمجيد سيدي السعيد وأحد أقاربه وابنه.
وثيقة أخرى تكشف عن تفاصيل تحويل مالي تم في العام 2015 في حساب شركة خاصة مقربة من نجل سيدي السعيد، متخصصة في الإنتاج السمعي البصري، وقيمة التحويل كانت تناهز الخمسة ملايين دولار، وعن علاقة لشركة مختصة في إنتاج العجائن لرجل أعمال يوجد في السجن حاليا.
وذكر مصدر مهتم بأن ثروة النقابي المخضرم تقدر بنحو 40 مليون دولار، وأن جزءا منها مودع في بنوك بإسبانيا وفرنسا وسويسرا، وفي إسبانيا فقط يملك الرجل ونجله العديد من الحسابات البنكية، ليكون بذلك أثرى نقابيي العالم، بعدما استغل ركوب ظهر الطبقات الشغيلة بخطابات شعبوية انتهت في الغالب إلى صالح برامج الحكومات المتعاقبة.
وفي واحدة من القضايا التي وجهت أصابع الاتهام فيها إلى سيدي السعيد، وعدد من كبار المسؤولين، حمّل الوزير السابق ورئيس حركة مجتمع السلم قبل العام 2011 أبوجرة سلطاني، أمام قاضي محكمة البليدة التي عالجت قضية مجمع خليفة مسؤولية ضياع أموال ضخمة من ثمانية صناديق للضمان الاجتماعي المودعة في بنك خليفة، للأمين العام للمركزية النقابية باعتبارها الجهة الوصية عن الصناديق.
قضايا مثيرة
سيدي السعيد ظل ينفي في إفاداته تلقيه أي مراسلة رسمية من قبل مجالس إدارة الصناديق الاجتماعية تخطره بإيداع أموالها في البنك، وأن أي قرار يبلغ الوزير في أجل 15 يوما، والوزير لديه شهر للرد، لكن الذي حصل أن مجلس الادارة لم يخطر الوزارة، والمراقبة يقوم بها مدير الصندوق وهو من ينبه الوزير إن سجل أي خلل أو أن الصندوق بحاجة لدعم الدولة لتحقيق التوازن.
ولم يتوان الرجل حينها عن اتهام الأعضاء التابعين للمركزية النقابية الممثلين لمجالس الإدارة بـ”الطمع” في الدفاع عن قرار ايداع أموال الصناديق في بنك لا يتوفر على معايير الملاءمة المالية، على حد تعبيره.
وكان الاتحاد العام للعمال الجزائريين قد فقد أموالا وصفت بـ”الضخمة”، بعد إفلاس البنك الخاص المملوك لرجل الأعمال عبدالمومن خليفة، مطلع الألفية، وهي الأموال التي بددت بسبب الفساد وسوء التسيير، من طرف قيادات التنظيم النقابي التاريخي في البلاد.
سيدي السعيد تربع على عرش أكبر نقابات البلاد منذ العام 1997 خلفا للراحل عبدالحق بن حمودة، الذي اغتيل آنذاك من طرف مجموعة مسلحة مجهولة، رجّح أن تكون إحدى خلايا التنظيمات الجهادية التي كانت تخوض حينها تمردا مسلحا على الدولة، وما كان ليصل إلى المكانة التي بلغها كذراع اجتماعية للسلطة، لولا الولاء وإدارة المصالح والتوازنات داخل السلطة، وتحول إلى واحد من أثرياء نظام بوتفليقة.
ورغم المعارضة الشديدة التي لقيها مشروع الولاية الخامسة في 2019 من طرف الجزائريين، إلا أن الرجل كان من بين المراهنين على مرور بوتفليقة في الانتخابات التي كانت مقررة في الثامن عشر من أبريل، ولم يتردد باستفزاز الفئات الرافضة بمختلف التصريحات والسلوكات، حيث ظهر راقصا منتشيا في مدينة وهران نكاية في من كانوا يرفضون ترشح بوتفليقة.
طالب سيدي السعيد بما أسماه ”التجند من أجل إنجاح بوتفليقة في الانتخابات الرئاسية، وقال لدى استقباله لسلال مدير الحملة الانتخابية لبوتفليقة بمقر الاتحاد في وهران، إن “الاتحاد العام للعمال الجزائريين قرر دعم مرشح الجزائريين والرجل التاريخي الذي خدم الجزائر إبان الثورة وبعد الاستقلال، وأنه يدعو الطبقة العاملة إلى التجنّد بهدف فوز بوتفليقة بالأغلبية الساحقة”.
وذكّر أمام جمع من الحاضرين الموالين بما أسماه “الإنجازات المحققة في كافة الميادين خلال العهدات السابقة في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بفضل السياسة الحكيمة التي انتهجها الرئيس بوتفليقة، وللاعتراف بالجميل وعدم النكران والعمل على استمرارها في المستقبل، قرر الاتحاد دعمه في الانتخابات”.
ولم يفوت الفرصة للإشادة بدور بوتفليقة في “تحقيق الأمن والاستقرار بفضل سياسة السلم والمصالحة الوطنية، وكذا في تعزيز الوحدة الوطنية، وأن الاتحاد العام للعمال الجزائريين سيشارك في تنشيط الحملة الانتخابية لبوتفليقة، كما أنه انطلق في عملية جمع التوقيعات لصالحه“، معتبراً أن ترشح بوتفليقة لعهدة رئاسية جديدة يلقى ترحيبا وصدى واسعا لدى الشعب الجزائري وعلى المستوى الدولي، دون تسجيل أيّ خوف أو تردد، ودعا إلى مشاركة قوية في الانتخابات المقبلة لإنجاح عرس الرجل الذي يملك الشجاعة الكافية لمواكبة الإصلاحات وتغيير النمط الاقتصادي الحالي، من خلال الندوة الوطنية التي دعا إليها بهدف القيام بإصلاحات جذرية تسمح بالنهوض بالاقتصاد الوطني دون المساس بالجوانب الاجتماعية وبالمواطنين البسطاء، على حد قوله.
◙ الحديث يدور عن مصالحة بين النظام الجديد ورموز النظام السابق، لكن سجن سيدي السعيد، يدشّن جولة جديدة من إماطة اللثام عن أسرار الفساد في الجزائر
ولأن الرجل وضع كل بيضه في سلة واحدة، وجد نفسه المطلوب بقوة من طرف الشارع للرحيل من قيادة النقابة، ولإحالته للمساءلة عن الثروة التي جمعها على حساب شرف العمل النقابي والتضحيات العمالية، وهو ما اضطره إلى رمي المنشفة في مؤتمر استثنائي للنقابة بغية النجاة برأسه.
وكانت البداية من تظاهر مئات العمال والنقابيين أمام مقر الاتحاد العام للعمال الجزائريين، للمطالبة برحيل أمينه العام عبدالمجيد سيدي السعيد، المتهم بموالاته للسلطة منذ سنوات طويلة، واعتبره المتظاهرون رمزا من رموز نظام عبدالعزيز بوتفليقة.
ضريبة المغامرة
كانت علامات الغضب بادية على وجوه هؤلاء الذين اعتبروا سيدي السعيد الذي يتزعم المركزية النقابية منذ 1997 رمزاً من رموز السلطة الذين طالبتهم الاحتجاجات الشعبية حينها بالتنحي، والذهاب إلى تغيير جذري للنظام السياسي في البلاد، وكان شعار “20 سنة بركات (يكفي)”، يتردد على مسامع الرجل في مبنى المركزية النقابية بوسط العاصمة.
وكما كانت المظاهرات تجوب المدن الجزائرية، كان العمال يرددون أن حركتهم النقابية التاريخية التي حاربت الاستعمار، هي ملك العمال وليست عصابة النظام، وكما أن البلاد في حاجة إلى التحرر فإن نقابتهم أيضا يجب أن تحرر.
ورغم أنه حاول التنصل من تركة مرحلة بوتفليقة، وبقي لسنوات بعيدا عن المساءلة، الأمر الذي عزز شكوك المعارضين حول ما أسموه بـ”انتقائية السلطة الجديدة في محاربة الفساد”، ولم يستبعد أن يكون الرجل يحظى بحماية معينة، إلى غاية الخميس الماضي لما تقرر إلحاقه بالمجموعة الموجودة في سجن الحراش.
ومع ذلك يبقى سجن إمبراطور نظام بوتفليقة، مؤشرا على تغيرات ما داخل سرايا السلطة، ففيما يجري الحديث عن مصالحة بين النظام ورموز النظام السابق من مدنيين وعسكريين، خاصة رجال المال والأعمال الذين يرجح الإفراج عنهم مقابل التنازل عن ثرواتهم وممتلكاتهم، يتم سجن سيدي السعيد، لتبدأ جولة جديدة من إماطة اللثام عن أسرار الفساد في الجزائر، خاصة وأن الرجل كان يعد أحد أضلع النظام وبحوزته الكثير الذي يطال رموزا أخرى.