شهدت مدينة مراكش المغربية الأربعاء، اجتماع التحالف الدولي ضد تنظيم «داعش» بمشاركة 76 دولة بالعالم، (15 دولة إفريقية و37 أوروبية و7 آسيوية ودولتين من أمريكا الشمالية و13 عربية، إضافة إلى 2 بصفة مراقب).
البيان الذي صدر عن هذا الاجتماع الذي جمع وزراء خارجية هذه البلدان فضلا عن بعض المنظمات الدولية، تعهد بمواصلة الانخراط والتنسيق الدولي في مكافحة داعش، لكن هذه المرة مع التركيز على القارة الإفريقية.
البعض رأى أن هذا الاجتماع لا يحمل أي دلالة سياسية أو استراتيجية، وألا جديد يمكن أن يقرأ في اجتماع مراكش، وأن هذا التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنة 2014، لم يحقق كل أهدافه، بسبب تركيزه فقط على الأبعاد الأمنية في الظاهرة الإرهابية، وأن ذلك ما يعطي للتنظيمات الإرهابية، هوامش مناورة كثيرة، يجعلها تبحث عن ملاذات آمنة، أو تغير خارطة انتشارها، تكيفا مع تحولات الوضع الدولي والإقليمي، مثل ما يقع من إعادة انتشارها في منطقة الساحل وجنوب الصحراء، أو في مناطق أخرى في إفريقيا، بسبب من ضعف الاستقرار أو ضعف الدولة وعجزها على تأمين حدودها الواسعة، كما هو الشأن في منطقة بحيرة تشاد التي يتحرك فيها تنظيم بوكو حرام.
والواقع، أن ثمة رسائل مهمة ينبغي التقاطها في هذا الاجتماع، تخص بشكل رئيس الدور المغربي، ورهاناته الاستراتيجية في الامتداد في العمق الإفريقي.
عمليا، ثمة ما يشبه الإجماع على تثمين المقاربة المغربية في مكافحة الإرهاب، وتأكيد الفعالية الأمنية التي يتمتع بها في التعاطي مع الظاهرة الإرهابية، إن على مستوى معلوماتي، أو عملياتي، وأن ثمة طلبا مهما على هذه الخبرة حتى من داخل التجارب الأوروبية، وأن إسبانيا، التي غيرت مؤخرا موقفها من الصحراء، كان الاعتبار الأمني (التعاون الأمني مع المغرب لمكافحة الإرهاب والهجرة السرية والجريمة العابرة للحدود) من أهم المحددات التي دفعتها لهذا التحول.
لكن، من وجهة نظر استراتيجية، ثمة ما هو أكبر من مجرد تقديم خبرة أمنية في مواجهة ظاهرة إٍرهابية تتوسع في إفريقيا أو تتحول إليها بفعل ضيق خياراتها في مناطق أخرى مثل الشرق الأوسط، فالمغرب، اليوم بات يدرك أن صراع الإرادات الدولية على مصادر الطاقة، سيجعل من إفريقيا، منطقة استقطاب حاد، بسبب كونها أضحت تمثل خيارا مهما لتعويض مصادر الطاقة القادمة من روسيا، وأنه لهذا السبب، ثمة رهان روسي غير مسبوق على تقوية النفوذ في منطقة الساحل جنوب الصحراء، وفي مد العين، على تمويل المشروع النجيري المغربي بمد أنبوب الغاز إلى أوروبا عبر المغرب.
في السابق، غير المغرب رؤيته في التعاطي مع إفريقيا، وذلك بالرهان على ثالوث: الدين، الأمن، الاقتصاد، فحقق امتدادا مهما في الغرب الإفريقي، وفي منطقة الساحل جنوب الصحراء، بل امتد إلى شرق إفريقيا، ووسطها، وتطلع إلى إفريقيا غير الفرنكفونية، واستطاع أن يحدث اختراقات مهمة في المحور الجزائري النيجيري الجنوب إفريقي، من خلال إقناع أبوجا بمشروع أنابيب الغاز إلى أوروبا عبر المغرب.
مع جائحة كورونا، تقوت استراتيجية الامتداد من خلال الرهان على سلاح اللقاح، من خلال عقد شراكة استراتيجية مع الصين، تحول المغرب إلى فاعل مهم في مجال تأمين اللقاح إلى إفريقيا.
اليوم، برزت تحديات أخرى استراتيجية، فرضت على المغرب تعديل أسلحته وآلياته في الامتداد الإفريقي، سواء على مستوى التكيف مع الاستراتيجيات الدولية، أو على مستوى استثمار الأزمات الدولية، ومحاولة لعب دور مهم لفائدة إفريقيا، يبرر تقوية نفوذه في المنطقة، والتفاف الدول الإفريقية عليه.
تزايد الرهان على المشروع النيجيري المغربي للإمداد الطاقي لأوروبا (الغاز) والحاجة لدور مغربي لتقوية استراتيجية مكافحة الإرهاب بمنطقة بحيرة تشاد وتأمين شروط تأمين خط أنبوب الغاز
في المستوى الأول، أي التكيف مع الاستراتيجيات الدولية، يمكن أن ندرج أولوية مكافحة الإرهاب في الدول الإفريقية، ورهان المغرب على لعب دور مركزي في هذا السياق، لاسيما في منطقة الساحل جنوب الصحراء، وفي منطقة بحيرة تشاد حيث تنامي نفوذ تنظيم بوكوحرام.
وعلى المستوى الثاني، استثمار الأزمات الدولية والتداعيات التي خلفتها، يمكن أن نشير إلى ثلاثة رهانات أساسية، أولهما، رغبة المغرب في استثمار التقاطب الدولي في منطقة مالي، لاسيما بعد انسحاب القوات الفرنسية من المنطقة وإعلان قادة الانقلاب بمالي عن نهاية الاتفاقات الدفاعية مع فرنسا، وتوسع النفوذ الروسي في المنطقة. والثاني، هو تزايد الرهان على المشروع النيجيري المغربي للإمداد الطاقي لأوروبا (الغاز) والحاجة لدور مغربي لتقوية استراتيجية مكافحة الإرهاب بمنطقة بحيرة تشاد وتأمين شروط تأمين خط أنبوب الغاز الذي يفترض مروره بعدد من الدول الإفريقية قبل وصوله إلى المغرب. ويتمثل الرهان الثالث، في استثمار التحدي الغذائي الذي ستواجهه إفريقيا في الشهور القادمة بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، وتأثيراتها على إمداد الغذاء في العالم، فقد ظهر هذا الرهان بشكل واضح، في المضمون السياسي الذي حمله خطاب الملك محمد السادس إلى أشغال القمة المنعقدة بأبيدجان حول الجفاف والتدبير المستدام للأراضي، والذي دعا فيه إلى إرساء تحالف إفريقي فعلي لمواجهة الجفاف، مع تمكينه من الموارد المالية والتكنولوجية الملائمة، والكفيلة ببلورة إجراءات فعالة وناجعة في هذا الشأن.
ما يعزز التكامل والبعد الرؤيوي في رهانات المغرب، هو الربط الذي استعمله الخطاب الملكي بين الأمن الغذائي والأمن الإنساني، وذلك حينما اعتبر أن «كل أرض تهجرها الحياة، يستوطنها انعدام الأمن»
واضح أن رؤية المغرب، أنه راهن على ثلاث معادلات رئيسية في توسيع استراتيجيته في الامتداد الإفريقي، أولهما استقطاب إفريقيا لتمثل كتلة تفاوضية في مواجهة تحدي الأمن الغذائي، تضع الأمن الإنساني (مكافحة الخطر الإرهابي) في مقابل (الأمن الغذائي) بما يعني توجيه رسالة إلى الغرب، بأن وضع إفريقيا في آخر سلم تلبية الأمن الغذائي، سيعني أن تواجه دول أوروبا تحديا أمنيا غير مقدور على رده. وثانيهما، هو وضع تأمين الطاقة لأوروبا (من إفريقيا) في مقابل دور حيوي في مواجهة التطرف في إفريقيا، بما يعني ضرورة دعم المغرب وتقوية دوره في المنطقة، حتى تؤهل نفسها لمواجهة التحديات الأمنية، وتوفير شروط إمداد آمن للطاقة نحو أوروبا. وثالثها، أن التحديات المتعاظمة في منطقة الساحل جنوب الصحراء، والتي تجاوزت الأبعاد الأمنية إلى ما هو استراتيجي (تنامي النفوذ الروسي في مقابل تراجع النفوذ الفرنسي) أصبحت تلح على دور مغربي في المنطقة، بحكم أنه لا يزال يتمتع بنفوذ سياسي واقتصادي بها، فضلا عن ثقة في دوره الأمني والديني، وأنه لهذا السبب، صار المغرب يرفع معادلة جديدة في التفاوض مع دول أوروبا، وهي أن أي استراتيجية ناجحة لمواجهة هذه التحديات في منطقة الساحل جنوب الصحراء، تقتضي إدخال عنصر «مواجهة الانفصال» ضمن معاملات الخطر الأمني والاستراتيجي في المنطقة، وأن ذلك يتطلب تغييرا مطردا لمواقف دول أوروبا من قضية الصحراء، بحجة أن جبهة البوليساريو الانفصالية توفر الشروط الضرورية لتنامي الخطر الإرهابي، وأن حليفتها في المنطقة توفر الغطاء السياسي للنفوذ الروسي في المنطقة.
ما من شك أن المغرب، سيكسب من خلال تبني هذه الأسلحة الجديدة تغيير مواقف بعض الدول الأوروبية، فقد التقطت مدريد وبرلين الرسالة بفعل توتر دبلوماسي حاد مع الرباط في الشهور السابقة، ويبدو أن هولاندا تتجه في هذا السياق، لكن، في المقابل، ثمة تحد مقابل، يمكن أن تواجهه الرباط، وهي أن تتحول البرودة في علاقاتها الدبلوماسية مع باريس إلى نقطة توتر حادة، ففرنسا لا تزال تعاني صدمة فقدان نفوذها في مالي، وهي حتما لا تريد أن ترى المغرب، يرث نفوذها في إفريقيا، بعد أن كانت تنظر إليه كمجرد منافس.