في الجزائر تبقى المسافة دائما بعيدة بين السلطة والمعارضة، ورغم علم كل طرف بمواطن الضعف لدى الآخر، فإن القبضة الحديدية تبقى متوازنة بينهما ولو نسبيا، حيث لم يستطع أي منهما إمالة الكفة لصالحه، حتى وإن كانت الحجج في المتناول. فالسلطة التي تزعم إفلاس المعارضة سياسيا وشعبيا مازالت تحكم قبضتها على كل أشكال التعبير، والمعارضة التي تشيطن السلطة على طول الخط، عجزت عن تقديم البديل الذكي والمقنع الذي يزيح السلطة عن مواقعها.
ولم يحدث أن تكتلت المعارضة السياسية كما حدث عام 2014، عندما كان الجدل صاخبا حول الولاية الرئاسية الرابعة للرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، وقبلها في 1995 عندما أصدرت قوى سياسية وازنة وعلى رأسها الجبهات الثلاث التي هيمنت على تشريعيات مطلع التسعينات (جبهة الإنقاذ، جبهة التحرير وجبهة القوى الاشتراكية)، ما عرف بوثيقة “سانت إيجيديو” نسبة للبلدة التي احتضنت حينها لقاء المعارضة في روما الإيطالية، وفي الحالتين حصل الانفجار وتشتتت تلك التكتلات وبقيت السلطة كما هي.
وجاءت احتجاجات الحراك الشعبي عام 2019، وعلى مدار عامين استطاعت السلطة الإفلات بنفسها، وبقيت الأسئلة لدى المتابعين والمهتمين حول فشل الحراك في تحقيق التغيير المنشود. وبين من يرمي بالكرة في مرمى السلطة ويتهمها بالالتفاف على إرادة الشارع، وبين من يتهم الحراك نفسه لأنه لم يملك الآليات اللازمة لتحقيق المطالب المرفوعة، بقيت الجزائر تراوح مكانها.
وفي عام 2014 صرح أحد الناشطين السياسيين في لقاء لما كان يعرف بـ”تنسيقية الحريات والانتقال الديمقراطي” أن “هذا التكتل الذي أزعج السلطة سينفجر قريبا، وأن الانتخابات التي دعت إليها السلطة في 2017 هي التي ستنهي هذا المشروع”. وهو ما حدث فعلا، فما كان عاملا للتقارب بين الانتماءات السياسية والأيديولوجية المتنافرة، حيث جلس الإسلامي إلى جانب العلماني والاشتراكي إلى جانب الليبرالي، تحول إلى مصدر للتلاسن بعدما هرول الإخوان للمشاركة في تلك الانتخابات دون العودة إلى رأي التكتل، واستل خصومهم سيوف النقد والتخوين ضدهم.
وفي كل مرة تقدم فيها السلطة على الخوض في أي استحقاق سياسي، ينتهي الموعد بتبادل التهم والانتقادات، فالمعارضة تتهم السلطة بالتزوير والتوجيه وقطع الطريق عليها، والسلطة تتهم المعارضة بالإفلاس السياسي والشعبي، وأن الجزائريين لا يثقون في من لا يملك مشروعا حقيقيا.
المتشائمون من تغيير الأوضاع في البلاد إلى الأفضل، يرون أن ما ضاع مع النخب السياسية خلال العقود الماضية، لا يمكن أن يتحقق الآن مع طبقة سياسية تناضل من أجل دعم السلطة وليس من أجل أخذ مكانها، وما عجز عن تحقيقه أمثال عبدالحميد مهري وحسين آيت أحمد ومحمد بوضياف وبن يوسف بن خدة، لا يمكن أن يتحقق مع الجيل الجديد من المعارضة التي تعتقد أنها وجدت لأخذ مكان في مركب السلطة وليس افتكاك مقعد القيادة.
علاقة السلطة والمعارضة لا يفترض فيها التنافر الإيجابي، فكل سلطة قوية وراءها معارضة قوية. في الجزائر وحدها، تجد السلطة ضعيفة والمعارضة أضعف
ويذهب آخرون إلى أن انتهاء الحراك الشعبي إلى هذه النتائج، هو إعلان عن نهاية أي أمل في ميلاد معارضة حقيقية بإمكانها فرض الأمر الواقع على السلطة، فقوة الحشد والتعبئة والصمود التي تميز بها طيلة مسلسل الاحتجاجات، غاب عنه المحتوى السياسي والهيكلي والتنظيمي، وظل مجرد حركة أفقية سهل ترويضه وتفكيكه، خاصة وأن جائحة كورونا كانت إحدى الأوراق المرجحة للعبة الصراع بينه وبين السلطة.
وإذ تضاربت الآراء حول دور وجدوى ومحتوى الحراك الشعبي، بين مشيد بالقدرة على تجاوز الخلافات السياسية والأيديولوجية والصمود وعدم الانجرار وراء دعوات الهيكلة والتنظيم، تفاديا للترويض والتفكيك، وبين معاتب على غياب برنامج سياسي واضح ومتفق عليه بدل الاكتفاء بالشعارات، هناك من يرى أن الحراك الشعبي كان ينتظر تجاوبا إيجابيا من السلطة والذهاب معا لحلول سياسية معلومة وعملية كما حدث في انتفاضة الخامس من أكتوبر 1988 عندما ثار الشباب الجزائري ضد السلطة، لكن السلطة احتوت الموقف بمباشرة إصلاحات سياسية واقتصادية جريئة حيث دخلت البلاد مرحلة التعددية السياسية والإعلامية والنقابية، كتجربة هي الأولى من نوعها في العالم العربي آنذاك.
وكان رئيس الحكومة الأسبق مولود حمروش عراب الإصلاحات السياسية في البلاد، عندما تجرأ في تسعينات القرن الماضي على إلغاء وزارتي الاتصال والمجاهدين (قدماء المحاربين) لأن قناعة الإصلاح حينها اقتربت من مطالب المعارضة، بل كانت شريكة فيها، وبرر قراره بأن الوزارتين المذكورتين لا جدوى منهما في المرحلة الجديدة، ويكفي إنشاء هيئات من المهنيين لإدارة الإعلام وأخرى للتكفل بفئة المجاهدين وذوي الحقوق من أسر الشهداء.
وكما تورط الجيش في الالتفاف على المرحلة وإلغاء المسار الانتخابي، تورط أيضا الإسلاميون في هدر الفرصة التاريخية للجزائر للعبور إلى مصاف الدول الديمقراطية، وفوق ذلك دخلت البلاد في حرب أهلية أزهقت أرواح ربع مليون جزائري واختلط فيها كل شيء.
علاقة السلطة والمعارضة لا يفترض فيها التنافر الإيجابي، فكل سلطة قوية وراءها معارضة قوية. في الجزائر وحدها، تجد السلطة ضعيفة والمعارضة أضعف، حيث هوس المؤامرة وهاجس الدسيسة يجعلان الأولى دائما في موقع الخائف من أي صوت يخالفها الرأي، فصنعت بذلك الكثير من الأعداء والخصوم بمن فيهم الكيانات الكرتونية، وكان بإمكانها تعرية الكثير من هؤلاء لو وفرت شروط التعبير الحر.
بينما لا تحسن الثانية إلا التشكي والبكاء فتعترض على أي شيء يصدر من السلطة حتى ولو كان في صالحها، في حين فوتت على
نفسها كل الفرص منذ منتصف تسعينات القرن الماضي إلى الآن، وعجزت عن تحويلها إلى منصة للانطلاق نحو فرض التداول السلمي على السلطة.