وزراء البلاتوهات.. شماعة الفشل في الجزائر

بليدي

أخيرا انتبهت السلطة في الجزائر إلى أن مسألة اختيار أعضاء الجهاز التنفيذي لم يخضع للمعايير المعمول بها في تقاليد تشكيل الحكومات، فبدل الاعتماد على الخبرات والكفاءات والرصيد المعرفي والعملي، تم الاستنجاد بمنظري “بلاتوهات” التلفزيونات، فكانت الصدمة قوية لأن التنظير ليس كالميدان.

منذ انتخاب عبدالمجيد تبون، رئيسا للبلاد نهاية العام 2019، ظهرت نية السلطة في انتهاج الأسلوب الشعبوي من أجل امتصاص فورة الشارع، ولذلك تم اللجوء إلى بعض ما كان يعرف بـ”الخبراء” المنظرين في الفضاءات التلفزيونية لإدارة بعض القطاعات، لكن الفشل كان حليفهم في نهاية المطاف، باعتراف الرجل الأول في الدولة.

وإذا كان أمثال فرحات آيت علي، كمال رزيق، قد فشلوا في النهوض بقطاعي الصناعة والتجارة، حيث لا زالت الحكومة، مثلا، تتخبط لتقرر على أيّ دفتر شروط تستقر لإطلاق عملية استيراد السيارات والمركبات، فمنذ النكسة التي مُني بها ما عرف بورشات “نفخ العجلات” (نشاط التركيب)، لم تركب في البلاد أيّ سيارة أو مركبة، ولم تهتد الحكومة إلى مقاييس لاستيرادها إلى حد الآن، وفي كل مرة يتم الإعلان عن قرب انطلاق العملية، يأتي أمر من فوق لمراجعة دفتر الشروط، وكأن الوزارة الوصية قد أصبحت خالية؛ فلا وزير ولا خبراء ولا مستشارين يكلفون الخزينة العمومية رواتب ضخمة بإمكانهم إنجاز الدفتر المذكور.

وفي التجارة غرق الوزير الذي تعهد عند تنصيبه بالقضاء على أزمة الحليب في ظرف أسبوع، لتمر الأسابيع والشهور يجرّ بعضها بعضا، والوزير الآن على وشك مغادرة منصبه وأزمة الحليب لا زالت قائمة وتستفحل أكثر. وفوق ذلك كشفت الأيام مدى خواء الخطاب الشعبوي الذي كان ينتهجه، فالظهور في الأسواق والمحلات والصراخ أمام الكاميرات لم يقدم شيئا للجزائريين، فقد غرق الناس في أزمة الندرة والغلاء والجري وراء كيس حليب أو قنينة زيت أو كيس سميد (الطحين)، وأما أسعار المواد الأخرى فحدث ولا حرج.

سيأتي من يأتي، ويغادر من يغادر من الوزراء، وتبقى الجزائر والجزائريون في أزمتهم، لأن سلّم القيم غير سليم، ومعايير الإدارة غير متوفرة. لقد أدار أمثال فرحات آيت علي وكمال رزيق قطاعاتهم لسنوات وسيتركونها للقادمين، لكن من يتحمل مسؤولية ضياع كل هذا الوقت والجهد والمال، ومن المسؤول عن اختيار أعضاء الحكومة، وما هي المعايير المتبعة في ذلك؟

سيأتي من يأتي، ويغادر من يغادر من الوزراء، وتبقى الجزائر والجزائريون في أزمتهم، لأن سلّم القيم غير سليم، ومعايير الإدارة غير متوفرة

الحكومات في الغالب هي تحصيل حاصل لإرادة شعبية عبّرت عن خيارها في استحقاق انتخابي، وهي مسؤولة أمام مؤسسات الدولة وأمام الشعب الذي فوضها بمأمورية إدارة شؤونه، غير أن ما يحصل في الجزائر هو العكس تماما؛ فالحكومة كعكة يتم اقتسامها بين أجنحة السلطة، وهي جهاز بيروقراطي جعله النمط السياسي الشمولي بعيدا عن المساءلة وعن الرقابة.

كثيرا ما يشتكي نواب البرلمان من ترفّع الوزراء عن الحضور لجلسات النقاش، وكثيرا ما يشتكون من عدم الرد على الأسئلة الكتابية والشفهية المطروحة عليهم، وإذا حدث وكان، فكثيرا ما يكون الرد وكأن الوزير يعيش في جزيرة أحلام وليس في الجزائر المنهكة بمشاكلها ومشاغلها وتدهور أوضاع مواطنيها.

وخلال تعيين أول حكومة في عهد الرئيس عبدالمجيد تبون، تسرب للأسماع أن الرجل لم يعيّن إلا وزيرا أو اثنين، وأما بقية الطاقم فقد كان من نصيب جماعات النفوذ، فكل جهة فرضت أسماءها ووجوهها حفاظا على مصالحها وضمان استمرارها، لأن التقليد جرى على أن الحكومة هي اقتسام كعكة بعد جولة سياسية، وليس تتويجا لإرادة سياسية اختارها الشعب.

ورغم الفشل الذي انتهت إليه الحكومة بعد سنوات، يبدو أن السلطة لم تهتد بعد إلى الحقيقة الكاملة، واكتفت بتعليق الفشل على شماعة وزراء البلاتوهات، ما دام الخطاب السائد يتحدث عن “اكتساب الخبرة في المنصب والذي يخطئ هو الذي يعمل”، وكأنما بها تريد القول بأنها راضية عن الأداء العام، وأن المشكلة تكمن فقط في وزراء البلاتوهات.

الوزير الذي يعتبر المسؤول الأول عن أيّ قطاع في بلاده، ولا تتم تسميته إلا أملا في تقديم إضافة معينة، له خصوصية مميزة في الجزائر، فخلال عقود خلت كان المنصب تتويجا لمهمة ناجحة أداها للسلطة، أو خدمات قدمها كاملة لأصحاب السلطة الحقيقيين، ولذلك فهو مجرد موظف من الطراز العالي، لكن لا يجب عليه التحرك خارج المدار الذي يرسم له.

وقد ذكر البعض منهم أنهم عينوا في مناصبهم بالهاتف وبقرار منسوب إلى الرئيس، وأدوا مهامهم وغادروها لكنهم لم يلتقوا الرئيس الذي عيّنهم، كما حدث للبعض خلال حقبة الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، وأما الآن فهم محظوظون جدا لأنهم يلتقون كل أسبوعين مع رئيس الدولة في اجتماع مجلس الوزراء، لكن لاستقبال الأوامر وليس لتقديم الحلول والاقتراحات، ولو كان غير ذلك لما سمح بتكرار نغمة الـ”25 مليار دولار التي يوفرها القطاع الزراعي” بالمرور للرأي العام، بينما أغلبية الجزائريين لم تعد قادرة على شراء البطاطا ولا تجد كيس حليب أو قنينة زيت.

يحدث ذلك عندما لا يكون الرجل المناسب في المكان المناسب، ليسود الالتباس والغموض بين نصيب القطاع في الناتج المحلي الخام وبين الإنتاج، ويجري التلاعب بمشاعر الناس وأعصابهم، فالمنظّر يمكن أن يسوق خطابا شعبويا يفتك به منصبا أو مزية سامية، لكن المسؤولية ملقاة بالدرجة الأولى على من منحه المنصب أو المزية، لأن الحكم يدار بالخبرات والكفاءات والإضافات وليس بالولاءات والخدمات وخطب البلاتوهات.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: