الفرصة الأخيرة لضحايا تندوف وشبابها

الصراف

لن أكون موجودا بعد خمسين عاما، ولكن شابا جزائريا أو مغربيا سوف يعود ليتذكر ما يقرأه الآن.

طنجة، أو عاصمة الشمال، كما يحب البعض أن يسميها، مدينة ذات خصائص اجتماعية وتاريخية متميزة. وهي اليوم كوسموبوليتية، أو تختلط فيها الأجناس، أكثر مما كانت من قبل عندما كانت “مقاطعة دولية” يحكمها مجلس تُمثّل فيه الدول الكبرى. وإحدى أهم ميزاتها الاجتماعية أنها ملتقى الأطراف المغربية المختلفة، ويحج إليها الرباطيون والمراكشيون كما لو أنهم ذاهبون إلى أوروبا. ليس لأنها على مرمى حجر من الشاطئ الأوروبي، ولكن طبيعتها هي نفسها أوروبية بدرجة ملحوظة. وهي تتحدث الفرنسية والإسبانية والإنجليزية مثلما تتحدث العربية. وهي موطن متقاعدين أوروبيين من مختلف البلدان، وتطل على بحرين، الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، مما يضفي عليها لمسة ساحرة. فهل تعتقد أنها ترغب بالحصول على حكم ذاتي؟

هذه الفكرة لن تكون سوى فكرة سخيفة في نظر أي طنجاوي لا يعرف نفسه إلا أنه مغربي، وأن مدينته هي صورة لا تقل نقاء في مغربيتها عن فاس ومكناس والعيون.

لقد مضت خمسون سنة على النزاع حول الصحراء المغربية الذي اصطنعته الجزائر. ولكن منذ المسيرة الخضراء التي قادها الملك الراحل الحسن الثاني في العام 1975، تزدهر مدن الصحراء وتتسع فرص التنمية الاجتماعية فيها وتزداد الاستثمارات، فماذا تعتقد أن يكون حالها بعد خمسين عاما؟ وهل تحسب أن الفرصة التي تتاح الآن لإقامة حكم ذاتي تحت سيادة المملكة وعلمها وملكها سوف تستمر إلى ما لا نهاية بينما يتحرر الناس فيها من عُقد “الخصوصية”، ويلتحمون في النسيج المغربي الذي صنع من طنجة “الدولية” مرآة لذلك النسيج وامتدادا له؟

الصحراويون أنفسهم أكثر من غيرهم سوف يستهجنون فكرة أن تتميز أرضهم بحكم ذاتي لا تريد أن تتميز به أي مدينة من مدن المغرب الكبرى. وذلك برغم أن لكل واحدة منها تاريخ ضارب في القدم، وخصائص، والكثير منها كان مركزا تدور من حوله الأقاليم المغربية الأخرى.

الطفل الذي يجبره التندوفيون اليوم على حمل السلاح، كان من الأولى أن يتخرج طبيبا من جامعة محمد الخامس في الرباط. وأن يعمل في تطوان ويبقى فيها إذا راق له المقام

الملك الحسن الثالث لن يفعل بعد خمسين عاما غير أن يبني على ما بناه أبوه وجده، بأن يجعل النسيج المغربي بهيجا بتنوعه، وبهيجا بوحدته وانصهاره في بوتقة الهوية المغربية الجامعة.

يلفت انتباه القارئ العربي، أنه يعرف من أسماء المدن المغربية ليس بأقل مما يعرف من أسماء مدن وبلدات بلده. وذلك لسبب هو أن المغرب يغلي بالفرص والإمكانيات والخصائص. تسمع عن الداخلة مثلما تسمع عن تطوان. وتعرف عن شفشاون مثلما تعرف عن أصيلة. والكثير يمضي عطلته الصيفية في إفران، أو الشتوية في مراكش بعيدا عن البحر، أو أغادير والصويرة على ساحل المحيط، والنسيج واحد. فلماذا يتعين أن يكون هناك حكم ذاتي في الصحراء وما هي إلا امتداد لطنجة؟ ولماذا تكون العيون، عاصمة الجنوب، شيئا مختلفا، بالنسبة إلى أهلها عن عاصمة الشمال؟

الفكرة نفسها بعد خمسين عاما سوف تبدو سخيفة.

وقد تبدو فكرة الحكم الذاتي جديرة بالاعتبار الآن، إنما بمقاييس الرغبة في وضع حد لنزاع مصطنع. ولكن عندما يزول الاصطناع، فهل يبقى ما يبرر تلك المقاييس؟

فرصة الحكم الذاتي الراهنة قد تعني أنها نافذة للخروج من أزمة لا مبرر لها. وقد يجدر الأخذ بها ليس لتسوية نزاع أفسدته الأوهام، ولكن للشروع بأن يكون لعاصمة الجنوب ما تفتخر به من خصوصياتها، وبما تنسجه من أواصر مع باقي مدن البلاد. إلا أنها لن تدوم كخصيصة سياسية. فلكلورية ربما، ولكن من دون أن تحمل حتى ذكريات التطلع التندوفي البائد إلى الانفصال.

سوف ينظر التندوفيون ممن امتدت بهم الحياة إلى تجربتهم الانفصالية وكأنها فصل هزلي من فصول المعارك الدونكيشوتية.

قليل منهم الآن، يستطيع أن يقارن منهجه بالمناهج المتطرفة التي عرفها أكثر من بلد عربي قبل أن تنحسر إلى ذكريات لا يريد أن يتذكرها أحد من الأساس.

لقد كان لبعض جيلي أن يذكر أنه كانت هناك حركة سياسية مسلحة في عُمان أكثر تطرفا من التندوفية الراهنة تدعى “جبهة تحرير ظفار”.

خمسون سنة ليست عمرا قصيرا. ولكنها تطايرت كما يتطاير الهباء. كان يمكن عمل الكثير أثناءها في الجزائر نفسها غير الانشغال بعقدة زائدة عن الحاجة

كان قادتها جمهوريين واشتراكيين وشعبيين أكثر من قادة تندوف. ولكن حكمة الاعتدال دلتهم في النهاية إلى أن أصبحوا من خيرة وزراء ومسؤولي السلطان الراحل قابوس بن سعيد، ومن أكثرهم إخلاصا للنهضة العمانية الحديثة.

هذه ذاكرة لا يحتاج أن يتذكرها التندوفيون الآن. سوف يتذكرها شبابهم بعد خمسين عاما وهم يتمنون لو أنها لم تكن، إذ أضاعت عمرا كان يجب أن يُستثمر بالعمران.

الطفل الذي يجبره التندوفيون اليوم على حمل السلاح، كان من الأولى أن يتخرج طبيبا من جامعة محمد الخامس في الرباط. وأن يعمل في تطوان ويبقى فيها إذا راق له المقام.

وبرغم أن النهايات واضحة، فإن خوض التجربة ربما كان مفيدا كنوع من عصف الأقدار. إلا أنه ما أن يخلو من القدرة على التعلم واستشراف المستقبل، فإنه لن يعدو كونه مأساة تهرس الأيام والأعمار.

الحكم الذاتي، فرصة، لو أنها استثمرت لكانت الصحراء عامرة أكثر بالحياة، ولتخطّت العلاقات المغربية – الجزائرية عقبة كأداء أضرت بتماسك النسيج المغاربي، وألقت ببعض دوله في مهب الريح والشتات.

خمسون سنة ليست عمرا قصيرا. ولكنها تطايرت كما يتطاير الهباء. كان يمكن عمل الكثير أثناءها في الجزائر نفسها غير الانشغال بعقدة زائدة عن الحاجة. أما المغرب الذي وجد نفسه في محنةِ تنازعٍ مع جوار تستشكل عليه قضاياه، فقد حاول بكل السبل أن ينأى بنفسه ليبني، ويعالج قضايا العمران السياسي والاقتصادي والاجتماعي وأنجز الكثير.

وبحسب المنظور القائم لبناء التوازنات التنموية، فإن الرحلة ما تزال في أولها. بدأ العاهل المغربي الملك محمد السادس برنامج إصلاحات هيكلية ودستورية قبل 23 عاما، وتنضج بعض ثماره الآن، استقرارا سياسيا، وتقدما مطردا في مجالات العمل والاستثمار والشراكات الدولية.

وعلى مستوى الوحدة الترابية، فإن من يرث الحكم مستقبلا لن يرث إلا بلدا متينا في وحدته، من سبتة ومليلية إلى آخر صخرة في الأطلسي قبالة ساحل الداخلة أو لكويرة. حتى الذاكرة لن يبقى لها متسعٌ لتذكر خوالي الدهر.

بعض الذين يُقلّبون أوراق الماضي، قد يعثرون على هذا المقال، ليقولوا، يا لعمري، ما أبعد تلك الأيام.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: