هل سمعت، في أي بلد في العالم، قائدا عسكريا يتحدث في قضايا ليست من اختصاصه؟
جرّب، منذ هذه الساعة، أن تُقلّب كل مصادر الأخبار لتبحث عن رؤساء أركان أيّ عدد من بلدان العالم، ولسوف ترى أنهم بعيدون عن الإعلام، حتى لكأنهم كتلة من الصمت. وإذا نطق أحدهم، فإنه لن يتحدث خارج نطاق عمله، ثم يعود إلى ثكنة الصمت، ليرعى شؤون قواته وجنوده، وواجبات الدفاع عن الحدود، مما لا يستوجب كلاما ولا متحدثين.
ورؤساء الأركان وقادة الجيوش خارج التغطية الإعلامية، لأنهم ليسوا نجوما على وجه الخصوص. النجومية ممنوعة عليهم من الأساس. وحتى عندما يخوضون حروبا، فإنهم يتركون النجومية لمتحدث باسم جبهات القتال. فيتحدث عنها دون أيّ شيء آخر. وآخر ما يمكن توقعه منهم هو أن يتحدثوا في السياسية أو الاقتصاد أو المجتمع. لأن ذلك ليس شغلهم. وهم لم يذهبوا إلى كليات الأركان ليتدربوا على الإدلاء بتصريحات سياسية أو تقديم نظريات اجتماعية.
بالرغم من أن الظواهر الاجتماعية، هي مؤشرات لأوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية شتى، لا تكفي لتحليلها حزمة من الخبرات الأكاديمية
حتى في العالم العربي، فإنه لا يوجد مَنْ يناظر القريحة لدى الأستاذ شنقريحة إلا جنرالات السودان الذين يقدمون دليلا كل يوم على أنهم يفهمون في كل الأمور، ويجيزون لأنفسهم التحدث في كل القضايا.
الأستاذ شنقريحة، ترك شؤونه العسكرية ليصبح مصلحا اجتماعيا. ولا تستطيع أن تقول له “شوف شغلك”، لأن طبقة العسكرتاريا في الجزائر تشتغل في كل شيء، وتفهم، مثل أختها في السودان، في كل القضايا. ومن الطبيعي بالتالي أن يهتم شنقريحة بـ”الظواهر الاجتماعية السلبية”، وأن يبدو، على كبر سنه، متابعا جيدا لما يجري في مواقع التواصل الاجتماعي.
الجزائر فيها أساتذة جامعيون وخبراء اجتماعيون ربما كانوا أكثر عددا من أيّ بلد عربي أو أفريقي آخر، قياسا بعدد السكان. هؤلاء تمت تنحيتهم جانبا، ليتولى شنقريحة الحديث عن القضايا الاجتماعية بالنيابة عنهم. وليقول إنه يفهم في هذه القضايا وأسبابها أكثر مما يفهمون، ويستطيع تحليل الظواهر الاجتماعية أكثر مما يستطيعون.
الأستاذ شنقريحة توعد “كل مَنْ تسوّل له نفسه نشر الظواهر الاجتماعية السلبية”، ولا تستطيع أن تقول له “شوف شغلك”، لأن شغله يشمل القضاء والملاحقات الأمنية ومراقبة الإعلام، ووكالات الأنباء والمؤسسات الصحافية. ويعرف “كلُ مَنْ تسوّل له نفسه” من هو خصمه الذي سوف يحاسبه، لأنه لا توجد مؤسسات دولة أخرى إلا مؤسسة الأستاذ شنقريحة. فهي ترعى كل شيء، وتتخذ قرارات بالنيابة عن أيّ مسؤول.
وعلى الرغم من أن الظواهر الاجتماعية، هي مؤشرات لأوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية شتى، لا تكفي لتحليلها وتفكيك عناصرها والبحث عن سبل لمعالجتها حزمة من الخبرات الأكاديمية، فإنها تنتهي لدى الأستاذ شنقريحة عند نقطة واحدة، هي المؤامرة. تلك هي خلاصة خبراته في الشؤون الاجتماعية. وهذا هو تفسيره لما قد يحتاج الأكاديميون إلى سنوات لبحثه. وحيث أن هؤلاء الأكاديميين لا حول ولا طَوْل لهم في قضايا اختصاصهم، فقد تركوا المهمة لمؤسسة القريحة، وآثروا الصمت، أو حتى البحث عن سبيل للهجرة. فذلك أكثر أمنا لهم، من أن ينافسوا مؤسسة تعرف كل شيء، وتحدد بداياته ونهاياته، وتملك الحق في التصرف.
“المبالغة” في تصوير الأحداث الاجتماعية، هي تعبير عن اختناق اجتماعي يجعلُ كل صغيرةٍ كبيرةً. إنه حالة من الذعر، وليس “التهويل” فيها سوى إجراء دفاعي حيال الانهيارات والأزمات الأخرى. المجتمع يُبالغ عمّا لا يجد ما يدافع به عن نفسه في طعامه، أو سكنه، أو مواطن الشغل فيه، أو في تراجع مستويات الخدمات. وكلُّ صغيرةٍ تُصبح خطرا، عندما يبلغُ الانهاكُ حدوده القصوى، وعندما يعجز الصوت الاجتماعي عن أن يُوصل نفسه إلى مَنْ يفترض أنهم قادرون على الإصلاح والمعالجة.
طبقة السلطة في الجزائر، ظلت تعمه في غيّها، ليس عن احتجاجات وتظاهرات تواصلت لنحو عام من دون جدوى، ولكنها تجاهلت أيضا المقاطعة العامة لانتخاباتها أيضا. وظلت تفرض ما تختاره من مسارات حتى أصبح كيلو البطاطا أزمة وطنية، وزيت القلي قضية اجتماعية كبرى، وخلوّ المتاجر من المواد الأساسية معركةً يخوضها المجتمع مع محنته كل يوم.
هذا جانب من الأسباب التي لا يجدر حتى بهذه السطور أن تقدم تحليلا رصينا لها، لأنها شغل الجامعات التي أُجبرت على البطالة، عندما تكفلت مؤسسة العسكر بتقديم كل التفسيرات والنظريات والحلول.
وقعت حادثة ما في جامع عن خطبةِ إمامٍ مصاب بالذعر. وبطبيعة الحال، فقد أصبحت المسألة “مؤامرة”، مثل مؤامرة نقص السُّكر في المتاجر. وكان جواب الأستاذ شنقريحة عليها بأنها “أمر خطير يندرج دون أدنى شك في سياق المؤامرات التي تحاك ضد الجزائر”. أما العلاج، فقد قال فيه إنه “ينبغي على الجميع، من أعوان الدولة وأعضاء المجتمع المدني والأعيان وقادة الرأي والنخب والأئمة ورجال الدين، استنهاض الهمم وتوعية الشباب والعمل بتضامن وتكاتف على وأد هذه المؤامرات”.
رؤساء الأركان وقادة الجيوش خارج التغطية الإعلامية، لأنهم ليسوا نجوما على وجه الخصوص. النجومية ممنوعة عليهم من الأساس. وحتى عندما يخوضون حروبا، فإنهم يتركون النجومية لمتحدث باسم جبهات القتال
هذه الوصفة تصلح لكل شيء. ويمكن تكرارها في كل أزمة. بما في ذلك عندما لا يجد المتسوقون مالا يشترون به احتياجاتهم، توفرت أم لم تتوفر لهم “اليقظة والتبصر”. كما يمكن تكرارها عندما يقع أيّ حدث. وبالنظر إلى أن أصله وفصله هو “مؤامرة أعداء من الخارج”، فإن علاجه هو “تحكيم العقل ونبذ التصرفات غير المسؤولة التي لا تخدم سوى مصالح أعداء الشعوب”.
وانتهت القصة. فلماذا يجدر بالمرء أن يستعين بأكاديميين للنظر في الظواهر الاجتماعية السلبية؟ وما الذي يبرر وجود قضاء أو مؤسسات تعليم إذا كانت القريحة هي التي تنطق؟ ولماذا يتعين أن يكون هناك نقاش وطني حول الإصلاحات، إذا كان السبب معروفا والجواب معروفا؟
أعداء الجزائر موجودون في أزمة البطاطا، بمقدار ما هم موجودون في كل جامع، وهم المسؤولون عن التهويل والمبالغات والاستغناء الفوري عن القانون في ردود الفعل الاجتماعية. وهذا الأخير لا يثير القلق لدى القريحة، من أن دولة القانون نفسها قد توفّيت، فورثها الناقمون.
ومع كثرة الأعداء، وقدراتهم الشمولية الخارقة، تكتشف أن مؤسسة الجيش لها دور في التصدي لهم، وتتوعدهم أينما كانوا، وتخوض حربا ضدهم في الأسواق والمقاهي والجوامع ومواقع التواصل الاجتماعي، وأن يتولى رئيس الأركان تقديم تقرير يومي عن نتائج المعركة.
فإذا قلت له “شوف شغلك”، يقول لك إن هذا هو شغله، وهو يؤديه على خير ما يرام، فماذا تريد الجزائر أكثر من ذلك لتهنأ بعيش كريم؟ لماذا الطمع برئيس أركان يعمل كرئيس أركان ويلوذ، كأقرانه، بثكنة الصمت؟