المطلوب تكافؤ فرص وليس مسكّنات اجتماعية

بليدي

يعد الخيار الاجتماعي للدولة والنمط الغذائي المعتمد على مادة الخبز، من أبرز زوايا الأزمة المتشعبة في الجزائر، فمع كل شهر رمضان تُفضح ممارسات اجتماعية سلبية تتمثل في الرمي العشوائي للمادة في ركام القمامة، ومع أيّ احتقان اجتماعي تظهر سلوكيات السلطة في شراء السلم الاجتماعي، بضخ مساعدات ومساهمات جديدة، تستهدف ضمان سكوت هؤلاء بدل إيجاد الحلول اللازمة.

خلال الأسبوع الأول من شهر رمضان، أعلن اتحاد الخبازين الجزائريين (تنظيم مهني مستقل)، عن رمي الجزائريين لستين مليون قطعة خبز. وإذ لم يقدم تفاصيل أخرى فإن الرقم يقدم مؤشرا حول تبديد مقدرات البلاد، بسبب انطباع سائد منذ عقود في المجتمع الجزائري، يختصر في قول مأثور “ليس هناك مقبرة للجوعى”، وهو ما يعني خيار الدولة الاجتماعي والدعم العشوائي أفقد الأشياء قيمتها بما فيها الخبز والعمل.

وفي نفس الشهر أعلن الرجل الأول في الدولة عبدالمجيد تبون، أن الحكومة سترفع الأجور ومنحة البطالة مطلع العام القادم، في خطوة تهدف إلى صب المزيد من المسكنات للجبهة الاجتماعية، في ظل تصاعد موجة الغلاء وتراجع القدرة الشرائية لأسباب مختلفة، كما أكد أن بلاده تمتلك مخزونا من القمح يغطي ثمانية أشهر دون احتساب موسم الحصاد، الذي يغطي في الغالب ثلث الحاجيات المحلية.

وبعيدا عن المبررات الاقتصادية التي توظف في مثل هذا النوع من القرارات في الاقتصاديات الطبيعية، تلجأ الجزائر، وهي واحدة من الدول الريعية، في كل مرة إلى عائدات النفط لتغطية المطالب الاجتماعية، الأمر الذي يبقي تلك القرارات في خانة المسكنات لا غير، لا طائل اقتصاديا من ورائها، فما يمنح باليمين في شكل أموال جديدة تضخ في الجيوب، يؤخذ باليسار من طرف التضخم والمضاربين والمحتكرين.

لقد سبق لمختلف الحكومات أن تدخلت بمثل هذه القرارات، لكن لا استقرار تحقق في الجبهة الاجتماعية، لأن الزيادات والتحويلات الاجتماعية التي كانت تضخ لم يكن يقابلها أيّ شيء من الإنتاج المحلي، ولذلك كانت مجرد أرقام أضيفت إلى أسعار المواد الاستهلاكية، مما حدا بالبعض للتعليق بالقول “لا تزيدوا لنا المال، خفضوا الأسعار”، كتعبير عن عدم جدوى هذه القرارات في معالجة الوضع.

وحتى عندما قررت السلطة استحداث منحة البطالة، طالب البعض بجمع الحكومة لتلك الأموال واستحداث مناصب شغل حقيقية، لأن الفرد في حاجة إلى دخل مستقر، بدل الجري وراء منحة اجتماعية قد تدخله في مرحلة طويلة من الانتظار، كما حدث مع الأنماط التشغيلية التي استحدثتها الآليات الحكومية السابقة، أين قضى البعض سنوات في مناصب لا هي كفلت لهم دخلا ثابتا، ولا هي تركتهم يصنفون في خانة العاطلين عن العمل ليواصلوا رحلة البحث عن فرصة عمل.

هذا النمط الاقتصادي والاجتماعي الموروث عن مرحلة معينة من تاريخ البلاد، أفضى إلى حالة من اللبس بين واجب الدولة في التكفل بالفئات الهشة، وبين حق هؤلاء عليها، ودخل الفساد السياسي والإداري على الخط عبر منطق “الربح السريع”، ولم يعد للعمل مكان في سلّم القيم الاجتماعية، لأن تلك الممارسات كسرت قواعد المجتمع والاقتصاد والسياسة.

في كل تقاليد البورجوازيات العالمية، توجد مسارات معينة لأفراد تلك الطبقة، ومن وراء كل واحد منهم حكاية من الجد والاجتهاد والمغامرة ونقل الثروة، أما في الجزائر يرفض مختصون الحديث عن بورجوازية محلية، لأنها لا توجد أصلا، حسبهم، وأن ما يعرف برجال المال والأعمال والأثرياء هم طبقة من الطفيليين والانتهازيين الذين زاوجوا بين النفوذ السياسي وصناعة المال.

وفي وسط العاصمة الجزائرية هناك جسر يدعى جسر “الجنرالات”، شيد في ثمانينات القرن الماضي، وتعود تسميته إلى “مرور حاويات الاستيراد المملوكة للجنرالات”، وهي تسمية تختصر وتحمل دلالة صناعة الثروة في البلاد، فكل مشروع ناجح وراءه جنرال نافذ، وكل مشروع متعثر دمره جنرال نافذ، الأمر الذي يحيل إلى أن صناعة الثروة في البلاد تحتاج إلى حماية وإلى زواج المال بالنفوذ السياسي.

هذا الأسلوب في تكوين وصناعة الأثرياء هو الذي دمّر قيمة العمل، وحوّل “الربح السريع” إلى معيار الجدارة و”الشطارة”، وإذ صنع طبقة من الأثرياء وليس الاقتصاديين، فإنه عمّق الفجوة إلى حدود خيالية، فلم يعد غير المحظوظين في مختلف الطبقات الاجتماعية يرضون بما يصفونه بـ”فتات الراتب” بينما الآخرون يغرفون بذات الشمال وذات اليمين.

تكافؤ الفرص في حلحلة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية يبقى من أهم مفاتيح نجاح أي حكومة في الذهاب إلى اقتصاد طبيعي، فلا دعم عشوائيا ولا توزيع ريع كفيل باستعادة ثقة هؤلاء، فهم يبحثون عن مناخ تخرج منه الإدارة في تسيير الشأن الاقتصادي والاجتماعي، وتلعب الحكومة دور الضابط المنظم، من أجل أن تتساوى الحظوظ وتتكافأ الفرص بين الجميع. من غير المعقول أن يغرى شاب تخرّج من الجامعة بمنصب مؤقت في إدارة أو منحة رمزية، بينما المحظوظون يكوّنون ثروات طائلة ليس لأنهم نوابغ بل لأنهم أصحاب نفوذ فقط.

الحكومة أحصت إلى حد الآن مليون عاطل عن العمل حصلوا على المنحة، والرقم مرشح للارتفاع متى سمح بمسّ أكبر عدد من البطالين، والمنتفعون السياسيون يطبلون للحل “السحري”، لكن لا أحد قال إن الاقتصاد الجزائري في حاجة إلى مليوني مؤسسة صغيرة بإمكانها استقطاب الملايين من الباحثين عن فرصة عمل، وحتى استيراد اليد العاملة من الخارج، وحينها فقط يمكن الحديث عن العمل، وعن عدم تبذير الخبز، فكل شيء يصبح في مقامه.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: