كأنّ المشكلات والمعاناة اختفت تماما من البلاد، ولم تعد هناك من قضية تشغل الناس غير السجال حول «الشيخ» و»الشيخة» ما بين مُناصر لهذه، ومُرجّح لكفّة ذاك!
مهلاً قرّاءنا، الإخوة المشارقة خاصة!
نحن هنا لا نتحدث عن «الشيخة» بالمعنى الذي تذهبون إليه، حيث ترقون بها إلى مرتبة «الأميرة» وكذلك الشأن بالنسبة «للشيوخ».
كلاّ، الكلام هنا تحديدًا عن «الشيخة» التي تعني في المغرب المغنية الشعبية والراقصة التي تُستدعى ضمن مجموعة مكوّنة من عازفين و»شيخات» أخريات للأعراس والمواسم والسهرات التلفزيونية.
مناسبة الكلام قيامُ فضائية تلفزيونية مغربية خلال رمضان الحالي ببث مسلسل تلفزيوني عنوانه «المكتوب» يحكي قصة «شيخة» تتزوج ابنتها بأحد الأثرياء، وتقوم بأداء دورها الممثلة دنيا بوطازوت. ويحظى العمل بمتابعة قوية من لدن المشاهدين المغاربة، لدرجة أن حلقاته احتلت المرتبة الأولى في نسب المتابعة، سواء عبر التلفزيون أو عبر الإنترنت.
وإذا كان نقاد وفنانون رأوا في المسلسل إعادة الاعتبار لهذه الفئة من الفنانات الشعبيات، واستبعاد النظرة السلبية التي تُلصق بهن، فإن بعض الدعاة الدينيين (أو الشيوخ) هبّوا لمهاجمة المسلسل وبطلته، معتبرين أنه يكرّس أنماطا من السلوك غير الأخلاقي المرتبط ـ وفق تقديرهم ـ بصورة «الشيخات».
الحملة ضد هذا العمل الفني بدأت بفيديو انتشر كالحصاد في الهشيم، للداعية الشيخ ياسين العمري، قال فيه إن المسلسل المذكور يجسّد «التطبيع مع المنكر». ورَدَّ على مَن يتحجّج بكون المسلسل يُمثّـل الواقع، بالقول: «هذا الواقع الذي تعيش فيه أنت، وليس واقع الكثير من الأحياء المغربية، حيث تجد النساء يقرأن القرآن» .
موقف أيده فيه الشيخ حسن الكتاني الذي ردد مصرّحا لموقع إلكتروني «ياسين العمري قال ما في قلوبنا جميعا ونطق باسمنا».
وشيخ آخر، اسمه رشيد نافع، اعتبر أن المسلسل أظهر الشيخة التي تتغنى بالكلام البذيء والفاحش على أنها هي القدوة، كما قالوا عن راقصة في مصر هي «الأم المثالية» والكلام دائما للداعية نفسه، في إشارة إلى فيفي عبده التي حملت هذا اللقب منذ سنوات.
ورابع الشيوخ، حمزة الخالدي الذي توجّه بحديث العتاب إلى دنيا بوطازوت، حيث رأى أن الدور الذي أدته يجسد «الفسوق والفجور» و»الإصرار على المعصية» وسألها: «هل تقبلين أن تكون ابنتك شيخة؟»
وفي فيديو جمع بين اللغتين العربية والأمازيغية، سخر الشيخ عمر أبو عمار من «الشيخة» وتساءل باستغراب: هل هذه المرأة التي تستعرض جسدها تؤدي مهنة شريفة، كما يقولون؟!
أحكام قيمة ظالمة!
مقابل ذلك، هبّ نقاد وفنانون وإعلاميون للرد على تهجمات «الشيوخ» على «الشيخة» من منطلق أن ما صدر عنهم أحكام قيمة ظالمة ومواقف مسبقة تقوم على التعميم والخلط بين الصالح والطالح، كما لم يستسغ المنتقدون أن يحاول رجال دين فرض وصايتهم على الفن والفنانين، ساعين إلى تأليب الرأي العام ضدهم.
وسار على المنوال نفسه العديد من رواد شبكات التواصل الاجتماعي الذين عبّروا عن إعجابهم بالعمل ككل وإشادتهم بالدور الذي أدته الفنانة دنيا بوطازوت بكفاءة واقتدار، أهّلاها لتكون النجمة الأولى في شبكة برامج رمضان على القنوات المغربية.
الجدل نحا منحى خاطئ منذ البداية. و»الشيوخ» الذين صوّبوا مدافعهم الكلامية نحو «الشيخة» كان حريا بهم ترك الإبداع الفني لأهله ومحبّيه، والتفرغ لمهماتهم الدينية الجليلة؛ عوض أن يزاحموا نقاد الفن في فضاءاتهم. مع العلم بأنها ليست هذه المرة الأولى التي تجسد فيها ممثلة مغربية دور «شيخة» فقد وجدنا ذلك في فيلم «خربوشة» لمخرجه حميد الزوغي وبطلته هدى صدقي، وأيضا في مسلسل «جنان الكرمة» لمخرجته فريدة بورقية. كما أن الممثلة مونية المكيمل تجسد دور شيخة في مسلسل «أمولا نوبة» الذي أخرجته الممثلة سامية أقريو لفائدة القناة الأولى المغربية.
وقبل هذا وذاك، فسهرات «الشيخات» لا تكاد تفارق التلفزيون منذ سنوات عديدة، إذ تؤثث حفلات نهاية الأسبوع باستمرار، دون أن تثار حولها مثل هذه الزوابع التي تغطّي ـ في نهاية المطاف ـ عن معاناة المواطنين اليومية مع غلاء المعيشة وفساد الاختيارات الاقتصادية والسياسية المنتهجة من لدن الحكومة. وتلك إحدى الغايات المرجوة من «استراتيجية الإلهاء» بتعبير المفكر نعوم تشومسكي!
الوصاية على الفن!
شكل آخر من محاولة الوصاية على الفن جاء هذه المرة من لدن أحد المحامين، إذ رفع دعوى قضائية إلى المحكمة، مطالبا بحمل القناة التلفزيونية الأولى على إيقاف بثّ مسلسل «فتح الأندلس» بدعوى أنه يتضمن مغالطات حول تاريخ المغرب، ويسيء إلى شخصية القائد الأمازيغية المغربي طارق بن زياد.
الأمر في غاية السخافة والخطورة في الآن نفسه: السخافة، لأن مضمون الدعوى يتعامل مع المسلسل وكأنه تقرير ذو طبيعة تاريخية محضة تستلزم مراعاة الشروط العلمية الصارمة، وليس عملا فنيا تخييليا بالدرجة الأولى، حتى وإن كان استمد مادته الخام من شخصيات ومعطيات تاريخية.
والخطورة، لأن مقاضاة المسلسل والمطالبة بإيقافه تعني مصادرة الحق في الإبداع وحرية التعبير، وهو ما لا يمكن السكوت عنه مطلقا. وأكيد أن لهيئة الحكم القضائية من النضج والتبصر والحكمة ما يجعلها تنتصر لذلك الحق وتقف بجانب العمل الفني، من منطلق أنه يقدم رؤية فنية من زاوية معينة لوقائع ماضية، يختلط فيها الواقعي بالمتخيل، وقد نتفق مع تلك الرؤية أو قد نختلف معها.
كلّ ما في الأمر أن المسلسل أنتجه كويتي، وشارك فيه ممثلون عرب من ضمنهم مغربي واحد، وصوّر في مناطق غير مغربية (لبنان وتركيا). فثارت حفيظة بعض الناس على ذلك، وأخذتهم الحمية، حتى تساءلوا: أيُعقل أن يتحدث غيرنا عن تاريخنا ورموزنا؟
حسنًا، يا سادة يا كرام، وأين كنتم طوال هذه السنين، فلم تستطيعوا إنجاز مسلسل تلفزيوني يليق بشخصية طارق بن زياد؟
لقد كان جديرا بالمنتقدين الغيورين أن يوجّهوا لومهم إلى المنتجين والمخرجين وكتاب السيناريوهات الذين يُغيّبون الحديث عن تاريخ البلاد وأمجادها ورموزها، ويفضّلون الاستسهال في أعمال تلفزيونية تكرر الموضوعات نفسها، بل وتستنسخ أحيانا مسلسلات وأفلاما أجنبية.
ثمة روايات مغربية عديدة تتحدث عن محطات من تاريخ البلاد، وهناك أيضا كتب ودراسات توثق لشخصيات وأحداث بارزة في هذا التاريخ. وما يلزم هو توفر الإرادة الحقيقية لدى أصحاب القرار السياسي والإعلامي، من أجل رصد الميزانيات الكافية لتحويل تلك الروايات والكتب إلى مسلسلات تلفزيونية ضخمة، على غرار مسلسل «فتح الأندلس» الذي أسال مدادا غزيرا وحرّك الغيرة في نفوس الكثيرين.
كثيرًا ما يضيع المال العمومي في تظاهرات فنية أو رياضية بلا أثر، فلماذا لا يُرصد جزء منه لمثل هذه الأعمال التي تربط حاضر المواطن بماضيه، وتجسد جوانب من وجدانه وهويته؟ عوض الاكتفاء بوضعية التباكي حين يُنجز منتج عربي عملا فنيا عن المغرب!