كيف يمكن فهم سياسة التعامل مع العاطلين في الجزائر

بليدي

ينظر جزائريون إلى منحة البطالة التي بدأت الحكومة بصرفها نهاية مارس الماضي على أنها استمرار لسياسة شراء السلم الاجتماعي حيث تراهن السلطة على تسويق الالتفاتة الاجتماعية من أجل تحقيق مكاسب جديدة في سلم الشرعية الشعبية داخليا، بارتداء ثوب الدولة الاجتماعية حتى في أحلك الظروف الاقتصادية.

علّق الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، على منحة البطالة التي دخلت حيز التنفيذ نهاية شهر مارس المنقضي، بالقول “الجزائر هي البلد الوحيد في المنطقة ومن خارج القارة الأوروبية التي خصصت منحة للبطالين (العاطلين)”، وهو التصريح الذي حمل فخرا تشتم منه رائحة المنّ السياسي، فالجزائريون يعتبرون ذلك حقا من الحقوق التي تأخرت كثيرا.

ونصح صالح قوجيل رئيس مجلس الأمة (الغرفة الثانية للبرلمان)، الشباب المستفيد من المنحة بـ”عدم إنفاقها في الهجرة السرية أو تبذيرها في الكماليات”، وهي النصيحة التي أثارت استغراب واستهزاء الجزائريين، فالتسعين دولارا أميركيا ماذا تفعل لشاب عاطل عن العمل؟ أم أن الرجل يعيش في جزائر أخرى غير الجزائر التي يعيش فيها هؤلاء؟ لكنها تبقى نصيحة تنطوي على رسالة أخرى غير رسالة التكفل الاجتماعي بالشباب العاطل.

موروث ثقيل

يبدو أن السلطة الجزائرية تراهن على تسويق الالتفاتة الاجتماعية من أجل تحقيق مكاسب جديدة في سلم الشرعية الشعبية داخليا، وترميم صورتها خارجيا، بارتداء ثوب الدولة الاجتماعية حتى في أحلك الظروف الاقتصادية، لكن لا أحد في المؤسسات الرسمية قدم للرأي العام قراءة أولية للخطوة الاجتماعية، خاصة وأن الحكومة تفتقد إلى خارطة اجتماعية دقيقة حول البطالة والفقر ولا آليات جرد وضبط لوائح المعنيين.

وإذ أعلنت وزارة العمل عن إحصاء أكثر من مليون مستفيد من منحة البطالة، وتخصيص مبلغ بأكثر من 500 ألف دينار (90 دولارا) لكل عاطل نهاية شهر مارس، فإن التساؤلات المطروحة تتمحور حول التعداد الحقيقي للعاطلين في الجزائر خاصة لدى فئة الشباب، وعما إذا كان الرقم المعلن هو عدد العاطلين الشباب الحقيقي في البلاد.

المنحة التي كلفت الخزينة العمومية مليار دولار، لم يتم الكشف عن مصدر التحويل الذي يغطيها، وما إذا كانت من العائدات الإضافية المحققة من أسعار النفط والغاز الأخيرة، أم من احتياطي الصرف البالغ نحو 40 مليار دولار، خاصة في ظل تنامي الدين الداخلي والعجز المستمر في الموازنة الداخلية، ومهما كان المصدر فهي وليدة المال الريعي وليس ثروة تحققت من تطور اقتصادي.

وتقول عالمة الاجتماع في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية والباحثة غير مقيمة في معهد الشرق الأوسط في واشنطن أمل بوبكر، في دراسة أعدتها حول السياسات الجزائرية المدعومة المتعلقة بالخريجين ورواد الأعمال العاطلين عن العمل، بأن سبب تحمل الشباب للقيود التي وضعتها الحكومة من أجل الحصول على المنحة، لم يكن “بسبب الاتفاق مع ما يسمى بنموذج الحكم الريعي، والذي غالبا ما لا يفهمونه تماما، ولن يفكروا في أي خيار آخر غير الاعتماد ماليا على الدولة. بل يعتقدون أن الدولة مدينة لهم بالتعويضات لأنها فشلت في خلق سوق عمل فعال. ويشعر الشباب الجزائري بعمق أنه في ظل غياب أشكال حقيقية من الحماية الاجتماعية وفي سياق الفرص الاقتصادية غير المتكافئة، يجب على الدولة التدخل لدعم دخوله سوق العمل”.

وتضيف “يختلف الإقرار بأن الدولة تسيطر سيطرة كاملة على السوق، عن الشعور بالرضا عن الطريقة التي تدير بها موارد البلد. وقد يفسر فهم شعور الشبان بأنهم مقيدون مهنيا بالنموذج الريعي الجزائري، بدلا من أن يكونوا مشاركين طوعيين في أشكال عقد اجتماعي تخضعهم، سبب استمرار الاضطرابات الاجتماعية على الرغم من 25 سنة من سياسات توظيف الشباب”.

ويبدو أن آليات ومناخ إطلاق المنحة المذكورة، قد أثار الغوص في الأعماق السياسية والاجتماعية في خيارات الحكومة الجزائرية، فالنص النهائي للمنحة مرّ بعدة مراحل قبل أن يصل إلى شكله النهائي سواء من حيث المبلغ أو المستفيد، لاسيما وأن المؤسسات الوصية تفتقد لخارطة اجتماعية دقيقة للبطالة.

وإذا كانت الحكومة غير قادرة على حصر حجم الأموال الموازية حيث تتضارب الأرقام بين ما يعادل الـ50 و100 مليار دولار، فلن يكون بإمكانها حصر عدد العاطلين، لأن النشاط الموازي هو اقتصاد قائم بذاته بأمواله ومعاملاته وبالمنتسبين إليه والمستفيدين منه.

ولا يختلف اثنان على أن التشدد التدريجي للحكومة في إخراج الوصفة النهائية للمستفيدين من المنحة، كان بغرض إقصاء أعداد من العاطلين بمبررات مختلفة، خشية أن تتفاجأ بالملايين من الطالبين لها، وهو ما أثار الانتقادات، خاصة في ما يتعلق بالسن المترواح بين 19 و40 سنة، لأن التعقيدات الاجتماعية عادة ما تكون فوق ذلك السن، فضلا عن شروط أخرى كعدم الانتساب للضمان الاجتماعي، وعدم ممارسة الزوج لأي مهنة، ومصير المستفيد بعد عامين من الاستفادة إذا لم يعثر على منصب شغل.

جحافل العاطلين

إحباط الشباب بسبب سياسات مساعدة اجتماعية غير فعالة
إحباط الشباب بسبب سياسات مساعدة اجتماعية غير فعالة

المختصة الاجتماعية أمل بوبكر، أثارت المسألة بطرح استفهامات جوهرية، تمحورت حول إمكانية ضبط الحكومة العاملين في السوق الموازية، لأنهم يقدمون أنفسهم على أنهم عاطلون، وعن مدى تلبية المنحة للحاجيات الأساسية للعاطلين، بالنظر إلى معدل التضخم الحالي البالغ 7.7 في المئة؟ وعن مدى استدامة النظام الجديد من الناحية المالية، حيث لا يزال بإمكان المرشحين الذين لا يجدون وظيفة جديدة أن يتوقعوا الحصول على مساعدات لمدة عامين؟ نظرا لأن فردا واحدا فقط من اثنين يمكنه الحصول على الإعانة، فهل ستنخفض بطالة المرأة، وهي بالفعل أقل من بطالة الرجل؟ ما مدى المساواة في نظام المساعدات الجديد هذا؟ حيث لم يساهم الباحثون عن عمل لأول مرة في أي نظام تقاعد.

ولفتت إلى أنه رغم أهمية هذه الأسئلة، إلا أنها حُجبت من خلال التصور الأوسع بأن الهدف الرئيسي لسياسات التوظيف الجزائرية هو شراء السلام الاجتماعي. ونظرا لأن الحرب الروسية على أوكرانيا تسببت في قفزة في أسعار النفط وقمع الحكومة العنيف لحركة الحراك الاحتجاجي، يراهن البعض على أن النظام الجزائري قد يثبت مرونته لسنوات قادمة.

وتذهب إلى أن المسألة، تحتاج إلى فهم تجريبي واجتماعي جاد لتجربة الشباب الجزائري العاطل عن العمل، لتعويض نقص البيانات الرسمية، وإلى تحليل آثار هذه السياسات على الاقتصاد الجزائري وقياس التدهور في مستويات المعيشة بدقة، ودلالات منطق دعم الشبان العاطلين عن العمل بصفتهم تلك، أي “عاطلين عن العمل” في سوق وظائف غير ثابت بالفعل، كما لا تولد هذه السياسات دعما سياسيا للقيادة الحالية، بل تؤدي إلى إحباط الشباب بسبب سياسات مساعدة اجتماعية ورعاية غير فعالة، في حين أن إعادة توزيع الريع الحقيقي يفيد أولئك الذين يتجاوزون المبادئ التوجيهية الرسمية للدولة.

الشباب الجزائريون يشعرون بأنه في ظل غياب الحماية الاجتماعية يجب على الدولة التدخل لدعم دخولهم سوق العمل

يمكن ملاسمة رسائل الدراسة الاجتماعية، في تعاليق بسيطة على شبكات التواصل الاجتماعي، تترجم فشلا مسبقا بعبور العاطل مرحلته الانتقالية من البطالة إلى منصب الشغل، في ظل الشلل الذي يخيم على سوق الشغل، حيث تذكر دراسات بأن الجزائر مطالبة بتوفير 250 ألف منصب شغل سنويا لمدة سبع سنوات للوصول إلى المستوى الطبيعي للبطالة، خاصة وأن الجامعات تلفظ سنويا نفس العدد من الطلبة المتخرجين.

ولم يتأخر البعض عن نقد توزيع التسعين دولارا على كامل أيام الشهر بأسلوب تهكمي يعكس الخيبة العميقة في نفوس الشباب الجزائري، في ظل منطق عدم تكافؤ الفرص بين عموم الشباب والطبقات المقربة أو المستفيدة من دوائر المال والسياسة، فكتب أحدهم على حسابه الشخصي في فيسبوك “تناول قهوة في الصباح وأخرى في المساء، ومهلوسات لنسيان مرارة الواقع تكون التسعين دولارا قد انتهت”، وهو منطق يكرس توفير مسكن للبطالة بدل علاج الظاهرة.

تجارب الجزائر مع السياسة الاجتماعية الريعية ليست وليدة المنحة، بل تعود إلى عقود سابقة، ففي تسعينات القرن الماضي، كان يكفي رب العائلة أن يحضر الدفتر العائلي للحصول على منحة مالية، ووصلت حيلة البعض حينها إلى عدم التصريح بحالة الوفاة في العائلة، لكي يستمر في قبض بضعة دنانير باسم المتوفى، لأن المنطق السائد هو أن “الحكومة عدو خذ ما تقدر عليه إذا أتيحت لك الفرصة”، وهو الشعور الذي يختصر علاقة غير طبيعية بين المواطن وحكومته بسبب غياب الثقة المستفحل والممارسات السلبية المتراكمة.

تكفل اجتماعي أم تعميم فساد

المختصون يجمعون بأنه لا يمكن الحديث عن عقد اجتماعي في الجزائر، في ظل استمرار خيار الاقتصاد الريعي، وانتهاج سياسة شراء السلم الاجتماعي

وشاعت مظاهر تلك السياسة مع قدوم الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة إلى السلطة في 1999، فتحت شعار محاربة البطالة ودعم الشباب وتوفير فرص الشغل، تم التوزيع الأفقي للفساد ونهب المال العام، وتمهيد الطريق أمام النافذين للحصول على القروض البنكية، فاستحدثت الحكومات المتعاقبة عدة برامج كالوكالة الوطنية للتشغيل، واللجنة الوطنية لمرحلة ما قبل التوظيف، وشبكة الأمان الاجتماعي، وهي برامج أفرزت مسلسلات من الاضطرابات الاجتماعية، بسبب عدم وفاء الحكومة بإدماج هؤلاء في مناصب شغل حقيقية، كما اضطرت للتدخل في أكثر من مرة لدى البنوك لجدولة ديون المؤسسات الشبابية المتعثرة، وهي نتيجة طبيعية لحكومات فشلت في توزيع الريع، فكيف يكون بإمكانها بناء اقتصاد يقوم على مقوماته الطبيعية.

وترى المختصة الاجتماعية أمل بوبكر أن خيارات الجزائر في المجال الاجتماعي انتهت إلى حالة إحباط مستفحلة، لأنها لم تخرج الطاقة الإيجابية لدى الشباب العاطلين، فقد كان القمع سلاحها في إسكات مطالب التشغيل، كما حدث مع اللجنة الوطنية للدفاع عن حقوق العاطلين في الجنوب.

وحتى فورة الشباب في حراك العام 2019، حيث توقف عن الهجرة السرية “الحرقة” بسبب أمله في التغيير واستعادة الثقة في مؤسسات دولته، قوبلت هي الأخرى بموجة قمع وتعنيف، كرست الخيبة والإحباط في المجتمع، بمن فيهم العاطلون الذين لم يعد يقنعهم فتات الحكومة، بقدر ما يبحثون عن كرامتهم في وطنهم.

ويجمع المختصون، بأنه لا يمكن الحديث عن عقد اجتماعي في الجزائر، في ظل استمرار خيار الاقتصاد الريعي، وانتهاج سياسة شراء السلم الاجتماعي لضمان الاستقرار وتمرير أجندات السلط المتعاقبة، ففي ظل غياب علاقة طبيعية بين العاطل والحكومة، يبقى الأول يعتبر المنحة الاجتماعية واجبا على السلطة القيام بها، والثانية توظفها في مغازلته لملء صناديق الاقتراع والانخراط في خطها السياسي.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: