بعد الأمريكي والألماني والفرنسي، جاء الاعتراف الإسباني بمغربية الصحراء ليمثل منعرجا حاسما في النزاع، ومع أنه لم يغلق قوس الملف الصحراوي بشكل نهائي، إلا أن آثاره قد تطال جبهة أخرى هي جبهة البلدتين المحتلتين سبتة ومليلية. فالدولة التي اقتطعت في وقت ما أجزاء واسعة من الخريطة المغربية لتتقاسمها مع الفرنسيين، بدأت على ما يبدو القيام ببعض المراجعات، لكن هل تراها ستقبل بالفعل بإعادة تركيبها وتجميعها من جديد؟
يوم واحد بعد اللقاء الذي جمع الخميس الماضي في الرباط رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز بالعاهل المغربي محمد السادس، نشر الموقع الرسمي للخارجية الإيبيرية خريطة للمغرب، من دون أن يظهر فيها كما حصل في السابق ما ظل المغاربة يصفونه بـ»الخط االوهمي» الفاصل بين المغرب والصحراء. وكانت إزالة ذلك الخط بمثابة التتويج العملي لفقرة وردت في الرسالة التي بعثها سانشيز منتصف الشهر الماضي إلى محمد السادس، وقال فيها المسؤول الإيبيري: «إنني أدرك أهمية قضية الصحراء المغربية بالنسبة للمغرب، والمجهودات الجادة والمعقولة التي يبذلها المغرب في إطار الأمم المتحدة لإيجاد حل مقبول من الطرفين، وفي هذا الاتجاه تعتبر إسبانيا أن الاقتراح المغربي للحكم الذاتي المقدم عام 2007 الأساس الأكثر جدية وصدقية وواقعية لحل هذا الخلاف».
لقد بدت تلك الكلمات وازنة في الرباط وثمينة للغاية، ووفت وإلى حد كبير بما اشترطته لطي صفحة نزاع دام ما يقرب العام بينها وبين مدريد، لكن الموقف الإسباني الجديد، الذي سرعان ما أثار غضبا واسعا في الجزائر ووصفته بالتحول، مقررة على إثره استدعاء سفيرها في مدريد، للتشاور حول جملة من التساؤلات عن أسبابه ودوافعه الحقيقية، وعما إذا كان يعد من جانب الإيبيريين خيارا تكتيكيا ظرفيا، أم أنه يحمل بالفعل طابعا استراتيجيا واسعا، بل إن البعض تساءل عما إذا كان الإسبان قد أخذوا في حقيقة الأمر بيد ما أعطوه بالأخرى، أي أنهم لم يتخلوا عن ورقة الصحراء، إلا حين حصلوا في مقابلها على ضمانات أو تعهدات بأن لا تمس ورقة أخرى قد لا تقل أهمية عنها، وهي ورقة سبتة ومليلية والجزر والتخوم المغربية، التي يحتلونها، وأن تظل بين أيديهم وأن لا تطرح أبدا على طاولة التفاوض أو النقاش. وكان مبعث ذلك التساؤل هو ما جاء في الفقرة الثانية من رسالة سانشيز من أنه: «يجب أن يكون هدفنا هو بناء علاقة جديدة مبنية على الشفافية والتواصل الدائم والاحترام المتبادل والاحترام للاتفاقيات الموقعة بين الطرفين، والامتناع عن أي عمل أحادي الجانب، من أجل الارتقاء إلى أهمية كل ما نتشاركه ولتجنب أزمات مستقبلية بين بلدينا». إن التأويل الذي قدمه هؤلاء لفكرة التعهد بالامتناع عن أي عمل أحادي كان مركزا في نظرهم وبالأساس في اتجاه واحد لا غير وهو، أن يمتنع المغاربة عن القيام بأي مسعى للمطالبة بالمدن والجزر المحتلة. ومع أن لا شيء كان يؤكد أو يثبت تفسيرهم، إلا أن السؤال الحقيقي الذي قد يكون حجبه أو أخفاه الأول هو، هل كان على المغرب أن يتعامل مع إسبانيا بمنطق «الكل أو لا شيء» فيرفض اعترافها بصحرائه ولا يسعى لانتزاع الورقة الصحراوية من بين أيديها، من دون أن يحصل على إقرار مواز منها بمغربية سبتة ومليلية وتعهدها بالجلاء عنهما من دون قيد أو شرط؟ أم كان عليه أن يعمل على استعادة أراضيه واستكمال وحدته الترابية بشكل متدرج ومن خلال خطوات مدروسة تعتمد سياسة المراحل؟
سعي المغرب وراء تثبيت مغربية الصحراء لن يحول دون أن يطالبوا بإقرار مغربية سبتة ومليلية ولو في وقت لاحق، بل لعله قد يمهد الطريق نحوها
لا شك في أن الخلط بين المسألتين والجمع بين الملف الصحراوي وملف المدن والجزر المغربية المحتلة ووضعهما معا في سلة واحدة، لا يبدو سليما أو واقعيا بالمرة، ليس فقط لأن إسبانيا التي انسحبت منتصف السبعينيات مما كانت تدعوها الصحراء الإسبانية، لم تكن مستعدة في أي وقت من الأوقات لأن تفعل بالمثل وتغادر الثغرين المغربين في الشمال، أي سبتة ومليلية، وظلت تعتبرهما جزءا من ترابها، بل لأن الظروف الموضوعية والمعطيات الإقليمية والدولية لم تكن مهيئة بالقدر الذي كان يسمح للمغرب بأن يطالب باستعادة سيادته على الصحراء وعلى البلدتين المحتلتين معا وفي وقت واحد. ويكفي أنه مضى أكثر من أربعة عقود كاملة على جلاء الإسبان عن الصحراء، حتى يقروا من خلال تأييدهم للمشروع المغربي للحكم الذاتي بسيادة الرباط على تلك المناطق، التي كانت في وقت سابق تحت إدارتهم. ولم يكن ذلك قطعا بالأمر الهين والبسيط، فالمعركة الدبلوماسية كانت حامية الوطيس ومتشعبة ومعقدة للغاية، وملف الصحراء كان بالنسبة لمدريد اشبه بالدجاجة التي تبيض ذهبا، وتسمح للإيبيريين بالمسك بأكثر من خيط إقليمي في وقت واحد، واللعب باستمرار على حبل الخلافات والتناقضات المغربية الجزائرية، والمواقف المتعارضة للبلدين من قضية الصحراء بوجه خاص. وقد تطلب تغيير قواعد اللعبة من جانب الرباط، كثيرا من الجهد والوقت وعملا مضنيا وشاقا لإعادة ترتيب التوازنات الإقليمية ونسج تحالفات قوية ومؤثرة والتعامل بمد وجزر مع الإسبان حتى اقتنعوا بأن بقاءهم في المنطقة الرمادية، ومن دون الكشف عن حقيقة مواقفهم من ملف كانوا هم المتسبب الأصلي فيه، من خلال الطريقة التي غادروا بها الأراضي الصحراوية في منتصف السبعينيات، لم يعد مجديا أو مفيدا لهم بقدر ما أنه بات يلحق ضررا فادحا بمصالحهم. ومن الواضح أنه لم يكن هناك مجال لأن يطالب المغاربة باستعادة البلدتين المحتلتين شمالا، في وقت ظلوا فيه وعلى مدى أكثر من أربعين عاما يعملون على غلق الملف الصحراوي جنوبا. ولأجل ذلك فقد ركزوا كل جهدهم طوال تلك الفترة على الصحراء، بدل الثغور المحتلة في الشمال، غير أن سعيهم وراء تثبيت مغربية تلك الصحراء لن يحول دون أن يطالبوا باقرار مغربية سبتة ومليلية ولو في وقت لاحق، بل لعله قد يمهد الطريق نحوها. ولا شك في أن الإسبان هم أكثر من يدرك ذلك، بل إنهم يتوجسون من أن يؤدي حل المشكل الصحراوي إلى تفرغ المغرب إلى تلك المسألة بالذات. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يحل رئيس الوزراء الإسباني بجيب سبتة أياما قليلة بعد الإعلان عن تطبيع العلاقات مع المغرب، ليؤكد من هناك بالتحديد أن الاتفاق الأخير مع الرباط من شأنه أن يضمن ما وصفها بوحدة أراضي إسبانيا، في إشارة واضحة إلى سبتة ومليلية المحتلتين. لكن ما الذي جعله يبدو واثقا من ذلك؟ سيكون من المستبعد جدا أن يكون قد حصل على تعهدات مكتوبة من جانب المغرب، بأن لا يفتح ملف المدينتين المحتلتين مطلقا. لكن أقصى ما قد يكون حصل عليه هو بعض الإشارات إلى أن الرباط ستترك الأمر للوقت، كما كان يقول الرئيس الفرنسي الراحل ميتران بمعنى، أنها ستطالب في الوقت الذي تراه مناسبا باستعادة الأراضي المغربية التي لا تزال تحت سيطرة الإسبان. يبقى متى تتهيأ الظروف لذلك؟ والجواب هو عندما يحل مشكل الصحراء ويدرك الإسبان أن عهد الخلافات والصراعات المغربية الجزائرية قد ولى إلى غير رجعة.