لم تكن الزيارة التي قام بها أخيرا رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز إلى الرباط حيث التقى العاهل المغربي الملك محمّد السادس سوى تكريس لواقع جديد فرضه تطلع المغرب وإسبانيا إلى المستقبل وآفاقه بدل البقاء في أسر الماضي.
في النهاية، ينقسم العالم إلى بلدان مصرّة على البقاء في الماضي وأخرى على علم بما يدور حولها من تطورات مع تركيز على التكامل في ما بينها، خصوصا متى كانت متجاورة. اكتشفت إسبانيا أخيرا أن المغرب بات بوابة مهمّة لها إلى أفريقيا، فيما حافظ المغرب دائما على سياسة ثابتة تجاه إسبانيا وذلك على الرغم من كلّ التقلبات التي ميّزت مواقف الحكومات الإسبانيّة منذ العام 1975، على وجه التحديد. لعبت هذه الحكومات، خصوصا حكومة خوسيه ماريا أثنار بين 1996 و2004، على الحبال في قضيّة الصحراء المغربيّة التي انسحبت إسبانيا منها لكنّ عينها بقيت فيها.
اعترفت إسبانيا بهذا الواقع الجديد، متجاهلة الموقف الجزائري، عندما أعلنت، حديثا، عبر رئيس الوزراء فيها أنّ المبادرة المغربية للحكم الذاتي في الأقاليم الصحراويّة، التي قدمتها المملكة في العام 2007، هي “الأساس الأكثر جدية وواقعية وصدقيّة لحل هذا النزاع”. أن تتجاهل إسبانيا ردّ الفعل الجزائري، تطور في غاية الأهمّية. ذهب البيان الذي صدر بعد انتهاء محادثات رئيس الوزراء الإسباني مع العاهل المغربي إلى أبعد من ذلك. أشار البيان إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين “تقوم على مبادئ الشفافية والحوار الدائم، والاحترام المتبادل، واحترام الالتزامات والاتفاقات الموقعة بين الطرفين وتنفيذها، كما تستجيب لنداء الملك محمد السادس بتدشين مرحلة غير مسبوقة في العلاقة بين البلدين ونداء ملك إسبانيا فيليبي السادس نحو السير معا لتجسيد هذه العلاقة الجديدة”.
تكمن أهمّية تصحيح طبيعة العلاقات بين المغرب وإسبانيا في أنّ الأخيرة اكتشفت أخيرا أن ليس في مصلحتها افتعال عداء مع بلد لا تفصل بينها وبينه سوى كيلومترات قليلة في البحر المتوسط. من هذا المنطلق، كان على مدريد، بعد سنة من ارتكاب خطأ استقبال إبراهيم غالي، زعيم جبهة “بوليساريو” بجواز جزائري لا يحمل اسمه، إصلاح هذا الخطأ.
لم تكتف إسبانيا بإصلاح الخطأ، بل قررت السير بعيدا في وضع الأسس لعلاقة ثابتة مع المغرب، علاقة تقوم على أسس علميّة وعصريّة تستند إلى خارطة طريق واضحة المعالم من 16 نقطة.
ثمّة أسس تعكس أهمّية العلاقات التاريخيّة التي ربطت بين إسبانيا والمغرب. يعطي فكرة عن هذه الأسس أنّه بعد شهر من تنازل والده خوان كارلوس عن العرش، زار العاهل الإسباني الملك فيليبي المغرب. اختار الملك فيليبي، قبل ثماني سنوات، المغرب ليكون أوّل دولة عربية وأفريقية يذهب إليها منذ صعوده على العرش. يؤكّد ذلك أن العلاقة المغربيّة – الإسبانيّة صمام أمان للبلدين.
لم تكتف إسبانيا بإصلاح الخطأ، بل قررت السير بعيدا في وضع الأسس لعلاقة ثابتة مع المغرب، علاقة تقوم على أسس علميّة وعصريّة تستند إلى خارطة طريق واضحة المعالم
تبيّن بعد هذا الحادث، الذي أمكن وضع حدّ سريع له، أنّ العلاقات بين المملكتين أعمق من أن يمسّ بها حادث عابر أو تصرّفات حكومة يمينية في مدريد. تأكّد الآن عمق العلاقات في ضوء مجيء رئيس الوزراء الإسباني إلى الرباط وتوجيهه قبل ذلك رسالة إلى الملك محمّد السادس تؤكد “الوحدة الترابيّة” للمغرب واعتراف إسبانيا بها، وهي وحدة تشمل الأقاليم الصحراويّة للمغرب. اختارت إسبانيا الشراكة مع المغرب في الانتماء إلى المستقبل بكل ما في هذه العبارة من معنى.صحيح أنّ إسبانيا ملكية دستورية وأن السياسة العامة للدولة، على الصعيدين الداخلي والخارجي، تقرّرها الحكومة، لكنّ الصحيح أيضا أنّه يبقى للقصر الملكي وزنه، وتبقى له كلمته، خصوصا عندما تخرج الحكومة عن الخط التقليدي للسياسة الإسبانية المبنية على حدّ أدنى من التعقّل والتعامل الحضاري مع جيران المملكة. وهذا ما حصل بالفعل، قبل عشرين عاما، عندما استفزّت إسبانيا المغرب وطوقت جزيرة ليلى، التي هي على مرمى حجر من الشاطئ المغربي. فعلت ذلك بعدما شاءت السلطات المغربية استخدام الجزيرة في إطار مكافحة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا.
تبدو الخطوة الأولى في هذا الاتجاه التخلي عن اللغة الخشبية من نوع تلك المعتمدة في الجزائر حيث نظام لم يخف تضايقه من التقارب المغربي – الإسباني وانزعاجه منه. سارع النظام الجزائري إلى استدعاء سفيره في مدريد بدل أن يسعى للانضمام بدوره إلى أن يكون جزءا من التحولات الإيجابية في المنطقة كلّها.
لم يترك البيان المشترك المغربي – الإسباني، الذي صدر بعد مقابلة بيدرو سانشيز للملك محمّد السادس، أي نقطة تهمّ مستقبل العلاقة بين البلدين. تجاوزت إسبانيا كلّ العقد التي كانت تعاني منها مع المغرب ودخلت في صلب كلّ موضوع يهمّ الجانبين، بما في ذلك الهجرة. باختصار بنت زيارة رئيس الوزراء الإسباني إلى الرباط جسرا يربط البلدين بالمستقبل بعيدا عن المناكفات والحساسيات من نوع الرهان على الخلافات بين دول المنطقة كما كانت تفعل إسبانيا في الماضي.
يستطيع النظام الجزائري البقاء في أسر أوهامه إلى ما لا نهاية، وهي أوهام كان أفضل ما عبّر عنها الشريط الذي انتشر في مواقع التواصل الاجتماعي والذي ظهر فيه الرئيس عبدالمجيد تبّون يحاضر بالفرنسية على وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الذي جلس يستمع إلى روايات لا علاقة لها بالواقع. من بين الروايات التي خرج بها تبون تلك المتعلّقة بالعلاقات المغربيّة – الموريتانيّة وتاريخها وحديثه عن “الوضع غير المستقر” في موريتانيا واتهامه المغرب باتباع نزعة توسّعية، علما أن تاريخه الطويل يشهد أن كلّ ما سعى له دائما يتمثّل في المحافظة على وحدته الترابية التي تشمل الأقاليم الصحراويّة التي كانت مستعمرة إسبانيّة.
في العلاقة مع المغرب، تصالحت إسبانيا مع نفسها أخيرا. تصالحت مع الرغبة في العمل من أجل مستقبل أفضل على ضفتي المتوسط. متى يتصالح النظام الجزائري مع نفسه ومع الضفّة الأوروبيّة للمتوسط؟ هل كثير أن يربط هذا النظام نفسه ويربط الجزائر كلّها بالمستقبل بدل البقاء رهينة لعقد تجاوزها الزمن والأحداث الإقليميّة والدوليّة وتجاوزها الشعب الجزائري نفسه؟