نجح المغرب وإسبانيا في عبور فترة التوتر التي سادت بين البلدين بسبب زيارة زعيم جبهة بوليساريو إبراهيم غالي إلى مدريد قبل عام، وتحويل الأزمة إلى فرصة لبناء شراكة استراتيجية متعددة الأوجه بين البلدين، خاصة بعد أن غيرت إسبانيا موقفها بشكل كامل بإعلانها دعما كاملا لمقاربة الحكم الذاتي التي قدمها المغرب كأساس لحل أزمة الصحراء.
ودشن لقاء العاهل المغربي الملك محمد السادس برئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز الخميس انطلاقة جديدة للعلاقات الثنائية؛ حيث كشف فيه المغرب عن نهجه الدبلوماسي الفعال في تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وأمنية بعد الخطأ الذي وقعت فيه الحكومة الإسبانية إثر استقبالها زعيم بوليساريو بطريقة سرية وجواز مزور.
وقال بيان مشترك أعقب هذه المباحثات إن البلدين “يدشنان اليوم مرحلة جديدة (…) على مبادئ الشفافية والحوار الدائم والاحترام المتبادل”.
ووصف رئيس الوزراء الإسباني اللحظة بأنها “تاريخية”، وأكد أن الملك محمد السادس اضطلع بدور “حاسم وبنّاء” في بدْء مرحلة جديدة من الشراكة المغربية – الإسبانية.
ونجح المغرب في جلب إسبانيا إلى صفه، وقبلها ألمانيا، وربما بريطانيا، بعدما اعتمد موقفا صلبا في تدبير الملفات التي تتعلق بقراره السيادي وأمنه القومي، ما ساهم في تغيير الوضع إلى فرصة سيستفيد منها في علاقاته الخارجية، وهذا ما جعل مراقبين مغاربة يؤكدون أن الحكومة الإسبانية استطاعت قراءة التحولات التي تطرأ على جنوب المتوسط، الشيء الذي جعلها تختار الجانب الصحيح من التاريخ.
واعتبر محمد لكريني، أستاذ القانون والعلاقات الدولية المغربي، أن “الأزمة شكلت فرصة لتصحيح مسار العلاقات بين إسبانيا والمغرب، خصوصا وأن المغرب يعتبر مسألة الوحدة الترابية خطا أحمر ولا يمكن غض الطرف عن أي تجاوز في هذا الصدد”، مضيفا أن “زيارة سانشيز ستكون بمثابة انطلاقة جديدة للالتزام بمضامين الاتفاقيات وتفعيل الشراكة الثنائية بين البلدين التي تحترم سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية”.
وأضاف لكريني، في تصريح لـه، أن “ملامح السياسة الخارجية المغربية أضحت أكثر حزما تجاه كل من يمس وحدته الترابية، وهو ما دفع الرباط إلى التعامل بصرامة شديدة مع إسبانيا حين خرقت معاهدة الصداقة وحسن الجوار باستقبال زعيم بوليساريو”.
من جهته أكد حميد جماهري عضو المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي، في تصريح لـه، أن “الملك محمد السادس مهد لتجاوز الأزمة بعدما قرر وضع النقاط على الحروف”، وأن لقاء الخميس “يمثل مقدمة لما سيأتي مع تكثيف سياسي وجيو – استراتيجي”.
ويرى مراقبون أن الجزائر لا شك أنها ندمت على إرسال إبراهيم غالي للعلاج في إسبانيا والتسبب في الأزمة بين الرباط ومدريد؛ فقد حركت -دون أن تدري أو تقدّر- المياه الراكدة، حيث مهدت للمراجعة التامة التي أقدم عليها الإسبان بعد أن وجدوا أن مصالح بلادهم وأمنها في حاجة إلى تصويب العلاقة مع المغرب.
وكتعبير سريع عن تجاوز الأزمة والإيفاء ببنود الاتفاقات المبرمة عقب اللقاء الذي جمع رئيس الحكومة الإسبانية بالملك محمد السادس، نشر الموقع الإلكتروني لوزارة الخارجية الإسبانية الجمعة خارطة المغرب كاملة غير مبتورة، ودون وضع “الخط الوهمي” الفاصل بين المغرب وصحرائه كما كان سابقا.
وتنضم إسبانيا إلى فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة والإمارات، من بين العديد من الدول الأخرى، في دعم مقاربة الحكم الذاتي، وذلك بفضل العمل الفعّال الذي قامت به الدبلوماسية المغربية.
وكان الدور الذي لعبته الولايات المتحدة بين مدريد والرباط حاسمًا في أصعب الجوانب. وصار الأمر الآن متروكا للأمم المتحدة وللمبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا ليكونا قادرين على إعادة جميع الأطراف إلى طاولة المفاوضات في جنيف للتوصل إلى حل للصراع بعد 46 عامًا، حيث يعيش الآلاف من الصحراويين في ظروف غير إنسانية بمخيمات تندوف.
وقال خافيير فيرنانديز، رئيس تحرير مجلة “أطليار” الإسبانية المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط، “من أجل أمن واستقرار شمال أفريقيا وأوروبا، يعد الحل الجيد لقضية الصحراء ضروريّا للجميع ولتشجيع الجزائر والمغرب على استعادة العلاقات ومواجهة التهديدات الإرهابية بشكل مشترك في منطقة الساحل، وبالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي”.
وأضاف أنه “بالنسبة إلى الحكومة الإسبانية سيكون من الضروري أن يفي المغرب بالتزاماته الجمركية في سبتة ومليلية كدليل على نبذ الإجراءات أحادية الجانب في هاتين المدينتين، وكذلك تثبيت الوضع عن طريق التفاوض على المياه الإقليمية في جزر الكناري”.
وتابع “لقد تم اتخاذ الخطوة التي تنهي الأزمة وحان الوقت الآن لتحقيق جميع الأهداف الواردة في البيان الإسباني – المغربي المشترك”.
وجدد البيان الختامي عقب نهاية زيارة سانشيز التأكيد على أن “إسبانيا تعتبر المبادرة المغربية للحكم الذاتي التي قدمها المغرب سنة 2007 هي الأساس الأكثر جدية وواقعية وصدقية لحل النزاع” حول الصحراء المغربية.
وأكد الطرفان التزامهما بمعالجة المواضيع ذات الاهتمام المشترك “بروح من الثقة والتشاور، بعيدا عن الأعمال الأحادية أو الأمر الواقع”.
وأعلن البيان المشترك عن خارطة طريق “دائمة وطموحة” لتجسيد المرحلة الجديدة في علاقات البلدين.
ومن أول “أهدافها استئناف حركة نقل البضائع بشكل طبيعي في المعابر الحدودية لسبتة ومليلية”، وفق ما صرّح به سانشيز في مؤتمر صحافي ليل الخميس.
وأوضح سانشيز أن المغرب وإسبانيا بلدان جاران وصديقان وشريكان، ما يجعل من علاقتهما الثنائية علاقة استراتيجية، وأن تعميق التعاون بينهما سيعود بالنفع عليهما معا، وأن الترابط بينهما في عدد من المجالات هو في نهاية المطاف حقيقة لا يمكن إنكارها، ومن مسؤولية الحكومتين تعزيز وتوثيق هذه العلاقات وروابط الصداقة والعلاقة الاستراتيجية.
وكان المغرب أوقف منذ عام 2019 تدفق البضائع من هذين الجيبين (سبتة ومليلية)، الواقعين على ساحله الشمالي، حيث تعتبر هذه التجارة تهريبا. واستمر الإغلاق أثناء جائحة كوفيد – 19 ليشمل أيضا تنقل الأشخاص.
وتضمنت خارطة الطريق أيضا “إعادة الربط البحري للمسافرين بين البلدين”. ويشهد هذا الربط وتيرة مكثفة خلال عملية انتقال المهاجرين المغاربة المقيمين بأوروبا، والتي استثنى منها المغرب الموانئ الإسبانية الصيف الماضي، في عز الأزمة بينهما.
كما أعلن الطرفان “إطلاق وتعزيز التعاون في مجال الهجرة” التي تعد ملفا رئيسيا في علاقات البلدين، بالإضافة إلى تفعيل مجموعة مشتركة تعنى بموضوع تحديد المياه الإقليمية على الواجهة الأطلسية، التي يتجاور فيها المغرب وجزر الكناري الإسبانية.
وعموما ستتم “إعادة تفعيل التعاون القطاعي في جميع المجالات”، بما فيها الاقتصاد والتجارة والطاقة. ويرتبط الجاران بعلاقات تجارية قوية، فإسبانيا هي الشريك التجاري الأول للمملكة.