عبدالجليل الحجمري أحد أقطاب القوة الناعمة العربية

الماموني

بإرادة سامية ورؤية مستقبلية من العاهل المغربي الملك محمد السادس يقوم عبدالجليل الحجمري بدور فعال في تحقيق أهداف أكاديمية المملكة، بدراسة كل أشكال وأدوات تقريب العلاقات بين الشعوب من جهة وبين الدول من جهة أخرى، بعيدا عن قيود العقيدة والتعصّب أو الجنس أو الحدود الجغرافية.

وبعدما كان رئيسا للمدرسة المولوية لسنوات طويلة، ها هو الحجمري يدير أداة متميزة من أدوات القوة الناعمة للمغرب، ويعمل على نشر الحوار بين الديانات كأولوية اجتماعية للقرن الحادي والعشرين حسب آخر موضوع لمحاضرة نظمتها أكاديميته.

هو واحد من أبرز القامات في مغرب عهد الملك محمد السادس، المرتكز على فلسفة التسامح، متمثلا في دستور 2011 الذي ينص على تنوع الموروث الثقافي والروحي للمملكة، موروث فريد من نوعه في العالم.

ونظرا للدور الهام للثقافة والتربية في التقارب بين المغرب ودول عديدة منها المطلة على المتوسط كمشترك إنساني، كان عمل ومبادرات الحجمري، أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة، في الثقافة كحاملة لقيم الحرية والجمال، تترجم تشبثه بالنهوض بالقيم المتوسطية كرجل من رجالات الدولة المغربية الكبار ببعد النظر الاستشرافي.

ميّز الحجمري تمكّنه الأكاديمي والمعرفي في عصر أبرز ما يسمّه أزمة القيم، وكان محط شهادات كثيرة قيلت بحقه، منها تأكيد رئيس معهد العالم العربي بباريس، جاك لانغ الذي أكّد أن هذا الأكاديمي المغربي قدّم أعمالا أساسية لفائدة التربية والمعرفة والثقافة بالمملكة، متجنّدا على الدوام من أجل التجديد البيداغوجي لصالح النهوض بالثقافة الفرنسية والحوض المتوسطي وذلك من خلال جمعية ضفاف متوسطية.

تزامنت ولادة الحجمري بمدينة الرباط سنة 1943 مع ذروة مناهضة المغاربة للاحتلال الفرنسي، وكان هدف دراسته للفرنسية التمكن من لغة الخصم لمقارعته في ميدانه، لهذا كانت وطنيته حاضرة في مساره الدراسي فنال شهادة الدكتوراه بأطروحة عن “صورة المغرب في الأدب الفرنسي من لوتي إلى مونثرلانت”، من جامعة باريس – نانتير، وهو الشغوف باللغة الفرنسية وتراثها الأدبي الذي كان وراء إنشاء شعبة اللغة والأدب الفرنسيين بجامعة فاس.

مع مختلف المناصب التي تحمّل مسؤوليتها، كان من أصعب المهام حساسية في تاريخ الحجمري إشرافه على تكوين وإعداد ولي العهد ملك المغرب المستقبلي والأمراء والأميرات، مع رجال النخبة الذين سيكونون مستشاريه، عندما تم منحه شرف إدارة المدرسة المولوية. وكانت تلك المهمة بمثابة اختبار حقيقي للمعرفة والأسلوب والكياسة مع الحزم، فالمدرسة مشتل حقيقي لرجال الدولة وعلى رأسهم الملك المستقبلي، وكان عمل الحجمري الإشراف على جانب مهم من التحضير العام لولي العهد لـ”مهنة ملك”. ويحرص الملك على اختيار مدير المدرسة وطاقمها التدريسي والتربوي بعناية فائقة، وقد وصف الأستاذ السابق في ذات المعهد والمستشار السابق للملك الراحل الحسن الثاني، عبدالهادي بوطالب، المعهد المولوي بأنه كان من جهة نخبويا لأنه معهد الأمراء، ومن جهة ثانية شعبيا، لأن المرافقين للأمراء كانوا من أبناء الشعب؛ فقد كان هناك تنويع في خلفيات التلاميذ الذين يتم انتقاؤهم للدراسة في المعهد المولوي؛ فزملاء دراسة الراحل الحسن الثاني كان فيهم من جاء من البوادي والجبال، ومن كان آباؤهم شخصيات تشغل مناصب مهمة وفيهم من كانوا ينتمون إلى الأسرة العلوية.

◙ أصعب المهام حساسية في تاريخ الحجمري إشرافه على إعداد ولي العهد المغربي، مع النخبة التي ستشكل مستشاريه
أصعب المهام حساسية في تاريخ الحجمري إشرافه على إعداد ولي العهد المغربي، مع النخبة التي ستشكل مستشاريه

وفي إشارة جلية إلى الأدوار المتميزة التي لعبها المعهد المولوي، سبق للعاهل المغربي الملك محمد السادس أن قال في أحد اللقاءات الصحافية إنه يحرص على أن “يحصل ولي العهد على تربية مثل التي حصلنا عليها أنا وشقيقاتي وشقيقي”، وهي تربية وصفها بأنها “تميل إلى الصرامة مع برنامج دراسي حافل”، مضيفا قوله “إذ تلقينا تربية دينية جيدة في الكتاب القرآني بالقصر. وأنا حريص على أن يتلقى ابني نفس القواعد التربوية”. إنها التربية التي كان الحجمري متمثلا لها في تكوينه وخصاله ومبادئه، حيث انكب منذ بداية مساره دون كلل على النهوض بالتربية والتعليم، مشاركا في كل الأنشطة الخاصة داخل اللجان الوطنية المشرفة على نشر ثقافة العلم.

وبموازاة مهمته تلك وتوليه عددا من المهام الكبيرة منها شغله منصب مدير المدرسة العليا للأساتذة بالرباط، كان الحجمري أول قيدوم لكلية العلوم والتربية بجامعة محمد الخامس، وتم تنصيبه أمينا عاما دائما لأكاديمية المملكة المغربية خلفا لعبداللطيف بربيش في العام 2015، حيث أشاد الملك راعي الأكاديمية بالخصال الإنسانية ونكران الذات المشهود بهما للحجمري وخاصة تشبثه بالعلم وبالثقافة وإلمامه العميق بالإرث الأدبي والتاريخي للمملكة.

أعلى هيئة فكرية

◙ الديمقراطية والحداثة يؤمن الحجمري أنهما سلاحان فعالان ضد التطرف لحماية أسس الحوار
◙ الديمقراطية والحداثة يؤمن الحجمري أنهما سلاحان فعالان ضد التطرف لحماية أسس الحوار، مشيدا باستمرار التجربة الهندية

توصف الأكاديمية المغربية بأنها أعلى هيئة فكرية تجمع مجالات الفكر والثقافة وتفتح الآفاق لدراسة قضايا العصر في تكوينها وعضويتها التي توالى عليها عدد من الشخصيات الوطنية والدولية المرموقة، وبالتالي فهي تعتبر من أدوات القوة الناعمة التي يعتمدها المغرب عن جدارة لإبراز موقعه الجيوستراتيجي وحضارته وثقافته وموروثه.

ولأنها كذلك وبعد خمسة وأربعين عاما من تأسيسها، أعطى الملك محمد السادس توجيهاته من أجل تفعيل وإعادة هيكلة الأكاديمية حتى تقوم بأداء المهمة النبيلة المنوطة بها، خدمة للإشعاع العلمي والثقافي للمملكة وإسهاما منها في التفكير في الإشكاليات والقضايا المطروحة على عالم اليوم. ومن المرتقب أن ترفع لجنة انتقاء الأعضاء الجدد المقترحين لعضوية الأكاديمية إلى الملك في شهر مايو المقبل في حدود 30 عضوا مغربيا و30 عضوا أجنبيا.

وتلتقي رؤية الملك مع طموح الحجمري التي لا تقتصر على تدبير الواقع الحالي بل استشراف المستقبل باقتراح تحويل الأكاديمية إلى مؤسسة منفتحة، عبر مراجعة قوانينها ومحاولة إعادة هيكلتها لتقوم بأداء مهامها، بالإضافة إلى ترقية الأنشطة العلمية والفكرية والثقافية، على اعتبار أن المؤسسة تقوم بمواكبة القضايا المعاصرة، ومن بينها ملف الحداثة، وتحقيق الانفتاح على ما تحفل به الساحة من تنوع كقاطرة لكل المؤسسات الثقافية الوطنية ـ تم إلحاق المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب بأكاديمية المملكة، وإحداث “الهيئة الأكاديمية العليا”، و”المعهد الأكاديمي للفنون”.

◙ اعترافا بمجهوداته توج بالجائزة الكبرى للفرنكوفونية لسنة 2019، ما اعتبره الملك محمد السادس في رسالة للحجمري آنذاك اعترافا بأعماله وأبحاثه العلمية القيمة
◙ اعترافا بمجهوداته توج بالجائزة الكبرى للفرنكوفونية لسنة 2019، ما اعتبره الملك محمد السادس في رسالة للحجمري آنذاك اعترافا بأعماله وأبحاثه العلمية القيمة 

باعتباره مؤسسا لجمعية مغرب الثقافات المنظمة لمهرجان موازين، يحمل الحجمري على عاتقه إرثا ثقيلا للإسهام بحظ موفور في الحفاظ على المثل والمبادئ الإنسانية العليا، وذلك عن طريق إنعاش العقل وتنوير الوجدان، وتحديث أساليب العمل الثقافي تطلعا إلى الآفاق التي يمتزج فيها الإيمان بالمحبة والسلام والإخاء، وإنقاذا للإنسانية مما بات يهددها من أخطار حضارية، ناتجة عن التنكر للقيم، والإقبال على التعصب، والإعراض عن الإيمان، والجنوح إلى التباغض والعنصرية، مما أثر أسوأ الأثر على العلاقات بين الشعوب.

كما يعمل الحجمري على تنويع شراكاته مع  كل الهيئات الدولية، لترسيخ الدور الوطني للأكاديمية المغربية. ومن بين تلك الشراكات تلك التي أبرمت مع الأكاديمية الفرنسية، وأكاديميات دول مثل البرتغال والصين والمكسيك وإسبانيا وغيرها، ومؤسسات علمية عريقة مثل “الكوليج دو فرانس” وغيرها، وذلك من أجل تعبئة الطاقات الفكرية والعلمية الوطنية والأجنبية والدولية، المشهود بمكانتها الاعتبارية في مجال اختصاصها والعمل على تشجيعها وتحفيزها على المشاركة في أنشطة الأكاديمية.

وقد كثفت أكاديمية المملكة في عهد الحجمري من تنظيم الندوات الهامة بالتوازي مع ملتقيات وتظاهرات دولية كبرى، وهو من صميم الأهداف التي كانت وراء إحداثها، لإحياء الحوافز الروحية والتخفيف من ضغوط المادة، إشاعة الأمن العقلي والتعايش الثقافي والتبادل العلمي، كل هذا على أساس من التقدير المتبادل بين الإنسان وأخيه، لمواجهة حالة الانهيار الحضاري.

الحوار لا التعصّب

كعادتها في اختيار المواضيع التي تتناسب مع أهدافها وغاياتها وانشغالات القائمين عليها، كان الحوار بين الأديان محور الدورة الأخيرة للأكاديمية في الأيام الماضية، في ظل التحديات التي يواجهها العالم المعاصر، فما عاشه العالم خلال السنتين الماضيتين من انتشار لوباء كورونا يؤكد أن العالم المعاصر تواجهه تحديات اجتماعية واقتصادية وكوارث بيئية على قدر كبير من التعقيد، وهنا يقول الحجمري إن ما ينتج عن ذلك من مشاكل قد يؤدي إلى انهيار قيم ومجتمعات على حد سواء.

المملكة المغربية تريد أن تتحمل قسطها من المسؤولية الدولية للحفاظ على كرامة الفكر والمفكرين، مع إثراء الحوار بما يخدم قضايا الإنسان أولا وقبل كل شيء، وهو ما يؤمن به الحجمري إلى حد الساعة. فالنقاش حول الحوار ما بين الأديان والتوجهات الروحية يعمق النظر حول ما يستدعيه الحوار من قيم إنسانية تشجب التعصب والكراهية والأحكام المسبقة، دعما لترابط ثقافي منتج يسهم في مواجهة التحديات المعاصرة التي تواجهها المجتمعات كأساس لإرساء ثقافة التعدد، بما هما وسيلة تواصل للأفراد والمجتمعات.

واعترافا بمجهوداته توج بالجائزة الكبرى للفرنكوفونية لسنة 2019 التي تمنحها الأكاديمية الفرنسية، ما اعتبره الملك محمد السادس في رسالة للحجمري آنذاك اعترافا بأعماله وأبحاثه العلمية القيمة وبما يبذله من جهود مشهود له بها على رأس أكاديمية المملكة المغربية في سبيل ترسيخ قيم الحوار والتقارب والتفاهم بين الثقافات والحضارات، وهو ما يجسد كذلك التقدير الكبير الذي يحظى به النبوغ المغربي وعطاءات كفاءاته العلمية والفكرية على المستوى العالمي.

ورغم أن الحجمري شغوف بالثقافة الفرنسية والعربية إلا أنه لا يتعصّب لهما، فهو يؤمن بالديمقراطية والحداثة كسلاح ضد التطرف وحماية لأسس الحوار. ويعتقد جازما أن التجربة الهندية تعدّ واحدة من أكثر التجارب التي تستدعي التأمل والاهتمام، بالنظر إلى تميز الحضارة الهندية بالتنوع فنونا وآدابا ولغات وتقاليد وتنويعات اجتماعية وسياسية واقتصادية ودينية، في توازن متناغم بين ما هو مادي وروحي في مستقبل عالمي موصول بتعددية ثقافية تنهل من قيم التساكن والتآخي في العيش وطرق التفكير أيضا.

مبادرات الحجمري الثقافية الحاملة لمعاني الحرية والجمال تترجم تشبثه بالنهوض بالقيم المتوسطية

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: