وللمغرب موعد آخر مع إسبانيا.. فانتظروه

الصراف

الاعتراف الإسباني بمغربية الصحراء أهم بكثير من الاعتراف الأميركي.

المستعمر السابق لهذا الجزء من الأراضي المغربية يستند في اعترافه إلى ما تملكه إسبانيا من وثائق وبراهين على أن “الشعب الصحراوي” جزء من الشعب المغربي، وأن روابطه التاريخية والحاضرة ما تزال تحتفظ بالوشائج نفسها مع باقي أجزاء المملكة المغربية، وأنه لم يكن قط كيانا سياسيا مستقلا، ولا جزءا من أي كيان سياسي آخر، وأن ملوك وأمراء المغرب، على امتداد يزيد عن ألف وثلاثمئة عام، حكموا هذه المنطقة كما حكمت فاس ومراكش، قبل الرباط، أجزاء المغرب الأخرى.

الاعتراف الأميركي كان بالأحرى رد جميل تاريخي لا يُنسى، إذ كانت الإيالة الشريفة المغربية في عهد محمد الثالث هي أول دولة في العالم تعترف باستقلال الولايات المتحدة في العام 1777. كان التاريخ الغربي المعاصر بالكاد قد بدأ ينشأ، ولكنه وجد في المغرب اعترافا من أقدم دولة في التاريخ الحديث.

كان عمر المغرب الذي أسسه الأدارسة في فاس عام 807 ميلادية قد بلغ في ذلك الوقت نحو ألف عام.

لقد أثبتت إدارة العاهل المغربي الملك محمد السادس لملف الصحراء، مرة بعد أخرى، نجاحا سوف يمجده له التاريخ. وهو أوفى بالمسؤولية الأكبر التي تركها له أجداده، وفي المقدمة منها وحدة التراب المغربي. تلك كانت وصية من وصايا صاحب “المسيرة الخضراء” الراحل الملك الحسن الثاني أيضا.

وما من حاجة إلى أن ينظر أحد إلى هذا النجاح على أنه فشل للجزائر من ناحيتين على الأقل: الأولى، لأنه ليس ثمة تنازع إقليمي بين المغرب والجزائر حول هذه المنطقة. هناك تنازع سياسي حول دعم منظمة مسلحة متطرفة تريد الانفصال، ولكن لا يوجد تنازع إقليمي. فالجزائر لا تطالب بشبر واحد من الأراضي المغربية، ولا المغرب يطالب بشبر واحد من الأراضي الجزائرية.

المغرب بلد غني بعطائه في علاقاته مع كل دول العالم. وهو لا يطلب في مقابل ذلك أكثر من حقه وسيادته على أرضه

والثانية، لأن المنطق هو المنطق في النهاية، والأدلة التاريخية تكفي. وكأي مسعى انفصالي عرفته دول العالم الأخرى، فإنه يخضع لإحدى قاعدتين، إما الضم، الذي تخرجت منه فكرة “التعددية”، وإما الحكم الذاتي. ولقد عرض المغرب في إطار حل سياسي شامل أن تحظى الصحراء المغربية، بأوسع حكم ذاتي، حتى ليكاد لا يطلب إلا حفظ سيادة البلاد على أراضيها، وليمنح السكان أفضل ما يمكن أن يختاروه لحكم أنفسهم.

فإذا قيل إن بلدا مثل يوغوسلافيا سبق وأن تفكك وأصبح عدة جمهوريات مستقلة، فالمغرب ليس يوغوسلافيا. لا تاريخيا ولا اجتماعيا ولا سياسيا، ولا على أي نحو آخر. واتصاله الجغرافي واحد. أي أن الصحراء المغربية ليست جزر الفوكلاند التي تبعد عن بريطانيا آلاف الأميال.

عندما يحكم المنطق، فإن مساعي “البلقنة” سرعان ما سوف تبدو هزيلة ومبتذلة إلى أقصى حد. والتنازع السياسي نفسه لا يستند إلى أساس. وهذا هو سبب ما قد يعتبره البعض فشلا للتدخلات السياسية الجزائرية.

الكل يعرف طبعا أن لتلك التدخلات أطماعا مواربة تقصد، في بعض جوانبها، الفوز بإطلالة على المحيط الأطلسي. إلا أن اختراع أزمة ونزاع مسلح ودعم منظمات إرهاب ليس هو الوسيلة الصحيحة. يمكن للمغرب أن يوفر هذه الإطلالة في إطار من التعاون الاقتصادي بين البلدين، وأن يخدمها كما يخدم كل موانئه الأخرى.

إذن، لا فشل للجزائر. لا يوجد مبرر لهذا الافتراض. أما النجاح السياسي والدبلوماسي الذي حققته إدارة الملك محمد السادس فإنه بالأحرى نجاح وطني، محض داخلي، أثبت في براعته أنه قادر على حل أعقد القضايا بأدوات ناعمة، بل مخملية إلى حد بعيد.

قبل إسبانيا امتثلت ألمانيا للحقائق. كانت رسالة واحدة قطعت على السفارة الألمانية في الرباط الاتصال مع أي من الكيانات المؤسسية المغربية كافية لكي تهز أركان الدبلوماسية الألمانية، وتذكرها بالحاجة إلى استدراك الحكمة في الاعتراف بسيادة المغرب، ليس على أراضيه وحدها، ولكن بسيادة المنطق.

لقد أثبتت إدارة العاهل المغربي الملك محمد السادس لملف الصحراء، مرة بعد أخرى، نجاحا سوف يمجده له التاريخ

لم تقطع الرباط علاقاتها الدبلوماسية مع برلين. سحبت سفيرتها مع احتجاج يقول إن ألمانيا تمارس سياسات عدائية تجاه الدور الإقليمي للمغرب، وتخل بقواعد التعاون بين البلدين في قضايا مكافحة الإرهاب. فعلت ذلك في التوقيت المناسب أيضا على مشارف نهاية عهد المستشارة أنجيلا ميركل.

برلين أدركت على الفور أنها تقف على الجانب الخطأ. وهي إنما تضر بمصالحها مع قوة محورية في القارة الأفريقية، وفي غربها بالذات، عندما تعكر صفو الماء على نفسها في المغرب.

هذه المخملية، هي واحدة من أرقى سمات الدبلوماسية المغربية. وهي من صنع ملك حسيب.

ولقد طرزت المخملية المغربية نفسها خارطة الطريق لإسبانيا لكي تدرك أنها إذا شاءت التنغيص على المغرب، فإن له وسائله للتنغيص عليها أيضا.

الرسالة التي بعث بها رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز إلى العاهل المغربي قالت إن مبادرة الحكم الذاتي المغربية المقترحة للصحراء “بمثابة الأساس الأكثر جدية وواقعية وصدقية من أجل تسوية الخلاف”.

ما الذي بنى هذا الاعتراف غير المتأخر بالمنطق؟

الذي بناه في الواقع هو أكثر من عقدين من الزمن من علاقات التعاون الاقتصادية والأفضليات التجارية التي أنقذت إسبانيا من أزمة العام 2008 وكانت الأعنف اقتصاديا منذ أزمة العام 1920.

كان بوسع المغرب أن يستغل الفرصة لكي يدخل في نزاع مسلح لاسترداد سبتة ومليلية. كما كان بوسعه أن يقايض هذا بذاك، ولكنه تصرف كشريك استراتيجي مخلص. وفي الواقع، فإن الأرقام وحدها تستطيع أن تثبت لمدريد أن المغرب كان شريكا اقتصاديا أكثر أهمية لها من أي بلد أوروبي. وهو الذي أنقذها من تلك الأزمة وأخرجها من حافة الإفلاس بما فتح لها من الأبواب.

المغرب بلد غني بعطائه في علاقاته مع كل دول العالم. وهو لا يطلب في مقابل ذلك أكثر من حقه وسيادته على أرضه.

ولسوف يأتي يوم لتدرك مدريد أن المخملية المغربية أكثر أهمية لمصالحها من بقاء الاحتلال في سبتة ومليلية.

هذا موعد آخر. ومَنْ ينتظر المواعيد المغربية يبلغها.

مملكة الألف وثلاثمئة عام تعرف كيف تحسب.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: