قرار إسبانيا الذي دعّم بشكل واضح مقاربة الحكم الذاتي المغربي في حل الخلاف بشأن الصحراء صدم الجزائر فلم تجد سوى استدعاء سفيرها من مدريد في خطوة أظهرت عجز دبلوماسيتها ومحدودية هامش المناورة لديها. كما أربك بوليساريو التي فقدت أغلب داعميها وتحولت إلى عبء على الجزائر.
أعلنت الجزائر السبت، استدعاء سفيرها لدى مدريد سعيد موسى للتشاور؛ احتجاجا على ما اعتبرته “الانقلاب المفاجئ” في موقف الحكومة الإسبانية إزاء ملف الصحراء المغربية، في خطوة وصفت بأنها تعبر عن حالة الفوضى التي تعيشها الدبلوماسية الجزائرية.
وقال بيان لوزارة الخارجية: “تفاجأت السلطات الجزائرية بشدة، من التصريحات الأخيرة للسلطات العليا الإسبانية بشأن ملف الصحراء”.
واعتبر مراقبون أن النظام الجزائري تفاجأ تماما من الخطوة الإسبانية، وأنه لم يكن يتوقعها لاعتقاده بأنه قد نجح في دق الإسفين بين مدريد والرباط من خلال زيارة زعيم بوليساريو، وكذلك سعيه إلى شراء موقف إسبانيا من خلال موضوع الغاز في ظل الأزمة التي تشهدها أوروبا.
وأشار المراقبون إلى أن الجزائر لا تمتلك من ورقة ضغط سوى استدعاء السفير، وأنها لا تقدر على أي مغامرة جديدة للتصعيد خاصة في موضوع الغاز، معتبرين أن خسارتها لتزويد المغرب بالغاز قد تتضاعف إذا ما فكرت في خطوة مماثلة مع إسبانيا لأن الأمر سيتحول إلى قضية أوروبية في وضع لن يتحمل فيه الاتحاد الأوروبي أي مزايدة من الجزائر، وإن حصل التصعيد فستكون نتائجه كبيرة على النظام الجزائري.
ووجهت الخطوة الإسبانية ضربة قوية للجزائر التي ظلت تراهن على مدريد لاستفزاز الرباط، ومحاولة إيجاد شرعية لبوليساريو من بوابة البلد الذي كان يستعمر الأقاليم الجنوبية للمغرب، لكن الآن ومع الموقف الإسباني الجديد ستفقد الجزائر آخر أوراقها في الترويج لبوليساريو، وهو ما يعني أنها ستخسر الورقة التي كانت تستثمرها للتغطية على أزماتها الداخلية.
ويرى المراقبون أن خسارة من كانوا يدعمون مقاربة الجزائر في موضوع الصحراء توسعت من أوروبا إلى أفريقيا، وهذا من شأنه أن يفقد النظام مصداقيته في الداخل، كما قد يزيد من حجم الضغوط التي تطالب بوقف الاستثمار المكلف في بوليساريو والتفكير في تحويل الأموال التي تدفع لها إلى مشاريع لخدمة الجزائريين.
واعتبر هؤلاء المراقبون ذلك “تحولا تاريخيا” في موقف مدريد من القضية باعتبارها المستعمر السابق للإقليم، لاسيما وأنها كانت تتبنى موقفا محايدا في السابق.
وامتدت الصدمة إلى بوليساريو التي اكتفت بالتعبير عن “استغرابها”، ودعوة القوى السياسية في مدريد إلى “الضغط على الحكومة الإسبانية لتصحيح هذا الخطأ الفادح”. لكنها لم تعلن عن أي خطة للرد على هذا الموقف الإسباني، وهو موقف يقول مراقبون إنه يمثل بداية النهاية في هذه الجبهة بعد أن خسرت آخر داعميها في أوروبا، أي إسبانيا التي كانت تستمد من مواقفها “شرعية” تحركاتها كونها المستعمر السابق.
وكانت الحكومة الإسبانية أعلنت الجمعة عن “مرحلة جديدة في العلاقة مع المغرب تقوم على الاحترام المتبادل واحترام الاتفاقات وغياب الإجراءات الأحادية والشفافية والتواصل الدائم”.
وجاء الإعلان بعد بيان للديوان الملكي المغربي أشار فيه إلى رسالة وصلت من رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز اعتبر فيها أن مبادرة “الحكم الذاتي” المغربية المقترحة للإقليم المتنازع عليه “بمثابة الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية من أجل تسوية الخلاف”.
وأشادت الرباط “عاليا بالمواقف الإيجابية” و”الالتزامات البناءة” لإسبانيا إزاء مقترح المملكة منح حكم ذاتي لحل نزاع الصحراء الغربية، ما من شأنه تحسين العلاقات المتأزمة بين الجارين.
وحمّل بيان بوليساريو إسبانيا ومعها فرنسا باعتبارهما قوتين مستعمرتين سابقتين، مسؤولية “الدفاع عن الحدود الدولية المعترف بها” بين الصحراء المغربية و”جيرانها الثلاثة، المغرب والجزائر وموريتانيا”.
ويقترح المغرب منح الصحراء المغربية التي يسيطر على نحو 80 في المئة من مساحتها، حكما ذاتيا تحت سيادته لحل النزاع.
ووصف محللون سياسيون الموقف الإسباني بأنه انتصار جديد للمغرب بعد الانتصار الذي حققه من خلال التغيير الذي حصل في الموقف الألماني وقبله الموقف الأميركي في عهد دونالد ترامب ولاحقا في عهد جو بايدن، معتبرين أن اعتراف الغرب بوحدة أراضي المغرب سيفتح الطريق أمام تطورات مهمة من بينها تسوية الخلافات مع أوروبا في ما يتعلق بصادرات الأقاليم الجنوبية.
ولفتوا إلى أن المغرب بهذه الخطوة الإسبانية يكون قد عزل الجزائر وبوليساريو في الغرب، ولم يبق أمامهما سوى بؤر صغيرة في أفريقيا سيتم التغلب عليها تدريجيا من خلال استراتيجية مغربية تقوم على الاستثمار الاقتصادي في القارة وتنويع الشراكات وبناء تحالفات على قاعدة المصالح، وهو ملعب لا تقدر الجزائر على المنافسة فيه.
المغرب يقترح منح الصحراء المغربية التي يسيطر على نحو 80 في المئة من مساحتها، حكما ذاتيا تحت سيادته لحل النزاع
واعتبر نبيل أندلوسي، الباحث المغربي في العلاقات الدولية، أن رسالة سانشيز بمثابة تطور إيجابي في السياسة الخارجية الإسبانية في علاقتها بالمغرب وقضاياه الاستراتيجية، وعلى رأسها قضية الصحراء المغربية، وهذا الموقف يتسم بوضوح وانحياز إيجابي للطرح المغربي.
وأوضح أندلوسي في تصريح سابق أن الرسالة تضمنت اعترافا ضمنيا بالخطأ واعتذارا عن الخطأ الدبلوماسي الذي ارتكبته إسبانيا في حق المغرب، بسبب استقبالها زعيمَ جبهة بوليساريو، والذي بسببه تم قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وأن الرسالة أشارت إلى توجه إسباني يهدف إلى تصحيح ذلك بتعزيز مسار الوضوح في العلاقات ما بين البلدين، وهذا ما كان يطالب به المغرب مباشرة بعد اندلاع الأزمة بين الدولتين.
ويعتقد محمد لكريني، أستاذ القانون الدولي المغربي، في تصريح لـ”العرب” أن تدخل القنوات الموازية للحكومة، وعلى رأسها العاهل الإسباني الملك فيليبي السادس، في ملف الصحراء أسهم في تغيير موقف الحكومة الإسبانية والسير قدما نحو دعم مبادرة الحكم الذاتي الذي اعتبره المغرب أقصى ما يمكن أن يقدمه في هذا الملف.
وكانت السلطات الإسبانية قد لجأت إلى الملك فيليبي من أجل إيجاد حل للأزمة مع المغرب، والذي تدخل في الموضوع وطالب الرباط ومدريد بالعمل على بناء علاقات جديدة ومتينة وتتجاوز الأزمة الحالية.