كسب التيار الصوفي في الجزائر، جولة جديدة في صراعه مع تيارات دينية أخرى كالإخوان والسلفيين، بعد تعيين أحد رموزه على رأس أكبر مرفق ديني في البلاد، ويتعلق الأمر بـ”جامع الجزائر” الذي شيد خلال حقبة الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، ودشن العام 2020 من طرف خلفه عبدالمجيد تبون، على أمل أن يكون صرحا روحيا وثقافيا، لاسيما وأنه يعتبر ثالث أكبر المساجد في العالم.
الجزائر – عين الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، شيخ الطريقة الرحمانية الصوفية محمد مأمون القاسمي الحسيني، عميدا لجامع الجزائر برتبة وزير، ليكون بذلك مؤشرا قويا على تحالف السلطة مع التيار الصوفي، رغم ما يشوبه من التباسات أفقدته المصداقية لدى قطاع عريض من الجزائريين، بسبب انخراطه في الشأن السياسي خلال العهدتين الأخيرتين للرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة.
ويبدو أن لجوء الرئيس تبون إلى محمد مأمون القاسمي، هو محاولة للقطيعة بين السلطة وبين الطرق الصوفية الأخرى التي التفّت في وقت سابق حول الرئيس بوتفليقة، بينما حافظت الطريقة الرحمانية المقيمة في زاوية الهامل نسبة إلى بلدة بوسعادة في محافظة المسيلة (200 كلم جنوبي العاصمة)، على مسافة بينها وبين السلطة آنذاك، ولم تزكّ الاستحقاقات الانتخابية لبوتفليقة.
واستطاعت الطريقة الصوفية المذكورة، الحفاظ على استقلاليتها خلال السنوات الماضية، وتلافت الانخراط في الدعاية السياسية، ما كلفها آنذاك عزلة رسمية، لكنها ظلت محافظة على أتباعها ومريديها، خاصة في منطقة القبائل بشمال البلاد، وهي المنطقة المعروفة بخصومتها مع السلطة، حتى بالنسبة إلى من يعرفون بـ”المعتدلين”.
الحسيني هو أحد علماء الدين وأشهر قادة الطريقة الرحمانية، ويتواجد مقره في زاوية الهامل بمحافظة المسيلة
وكان الرئيس الراحل بوتفليقة، قد أولى أهمية لافتة للتيار الصوفي في البلاد، واستطاع أن يحوله إلى وعاء سياسي وانتخابي داعم لاستحقاقاته، حيث تم إطلاق المنظمة الوطنية للزوايا برئاسة عبدالقادر ياسين، كما تم استحداث منصب مستشار في رئاسة الجمهورية آنذاك مكلف بشؤون الزوايا، لتتحول بذلك إلى ذراع دينية للرئيس بوتفليقة.
وذكر بيان للرئاسة الجزائرية، بأن “الرئيس عبدالمجيد تبون، عيّن الشيخ محمد المأمون القاسمي الحسيني عميدا لجامع الجزائر برتبة وزير، وذلك بعد استشارة الوزير أيمن بن عبدالرحمن”.
والحسيني (78 عاما) هو أحد علماء الدين بالجزائر وأشهر قادة الطريقة الرحمانية، ويتواجد مقره في زاوية الهامل بمحافظة المسيلة جنوبي العاصمة، كما تملك الطريقة أعدادا معتبرة من الأتباع والمريدين خاصة في وسط البلاد ومنطقة القبائل تحديدا، حيث يعتبر المناضل والقيادي التاريخي الراحل حسين آيت أحمد، أحد الصوفيين الرحمانيين، ويتواجد بيته العائلي إلى جانب زاوية في بلدة “آيت أحمد” (أولاد أحمد) في أعالي محافظة تيزي وزو.
وظل التياران الإخواني والسلفي، يأملان في الاستحواذ على الصرح الديني الجديد، من أجل تحويله إلى قاعدة لنشر أفكارهما، خاصة وأنهما بقيا يحافظان على حبل المودة مع السلطة رغم الخلافات الأيديولوجية والفكرية الخفية، غير أن قرار الرئيس تبون جاء مفاجئا لهما، حيث عبرت العديد من الصفحات الإخوانية والسلفية على شبكات التواصل الاجتماعي، عن خيبتها من عودة العمادة إلى خصمهما اللدود (الصوفية).
ومنذ أن أطاح الجيش ببوتفليقة، تحت ضغط احتجاجات الحراك الشعبي العام 2019، توارت الطرق الصوفية الداعمة له عن الأنظار، ولو أنها حاولت الرهان على وزير الطاقة الفار إلى الولايات المتحدة الأميركية شكيب خليل، المتابع من طرف القضاء بتهم الفساد وتبديد المال العام، كحصان سياسي يعيد لهم مجدهم الضائع، حيث فتحوا له أبواب الزوايا والمساجد التابعة لهم للتبرك بمشايخها وتقديم محاضراته، قبل أن يضطر بدوره للعودة إلى واشنطن.
لجوء الرئيس تبون إلى محمد مأمون القاسمي، هو محاولة للقطيعة بين السلطة وبين الطرق الصوفية الأخرى التي التفّت في وقت سابق حول الرئيس بوتفليقة
وجامع الجزائر أو “المسجد الأعظم” تم تدشينه نهاية العام 2020 بحي المحمدية بالعاصمة الجزائر على مساحة 200 ألف متر مربع ما يجعله حسب السلطات المحلية ثالث أكبر مسجد بالعالم بعد الحرمين الشريفين بالسعودية، فيما يصل ارتفاع مئذنته إلى حوالي 265 مترا.
وتعتبر السلطات هذا المسجد الذي يتسع لنحو 120 ألف مصل، مركزا علميا وسياحيا، ويضم أيضا ثلاثة طوابق تحت الأرض مساحتها 180 ألف متر مربع مخصصة لأكثر من 6 آلاف سيارة، وقاعتين للمحاضرات مساحتهما 16 ألفا و100 متر مربع، واحدة تضم 1500 مقعد، والثانية 300 مقعد.
كما يضم مكتبة فيها ألفا مقعد ومساحتها 21 ألفا و800 متر مربع، وبلغت تكلفة مشروع بناء المسجد الذي أنجزته شركة صينية 1.5 مليار دولار، حسب ما أفادت به إدارة الشركة الصينية التي أسندت لها أشغال التشييد.
وارتبط المسجد بسجالات أيديولوجية في الجزائر، فهو إلى جانب أنه شيد على أنقاض كنيسة تبشيرية، أنشأتها فرنسا أثناء الفترة الاستعمارية لنشر الأفكار المسيحية لدى الجزائريين (1832- 1962)، تزامن انطلاق أشغاله مع أزمة مالية واقتصادية خانقة، مما أثار انتقادات للسلطة، حول جدوى بناء مسجد بهذا الحجم، بينما تحتاج البلاد مستشفى بمعايير عالمية يستقبل المرضى، لكن آخرين اعتبروا ذلك دفاعا مستترا على إرث عراب التبشير المسيحي الفرنسي شارل مارسيا لافيجري.