دخل تعبير “الخطأ الفادح” كمصطلح سياسي جديد في مفردات الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، في تبرير تغييرات وزارية أدخلها على حكومته مرتين على التوالي، ممهداً لذلك بتصريح مفاده أن الاستغناء عن أي وزير لن يكون إلا في حالة الخطأ، ولم يأخذ التصريح حينها بعين الاعتبار إلا عندما تمت تنحية وزير النقل في الحكومة الحالية عيسى بكاي قبل أيام، ليُضاف إلى وزيرين آخرين أطيح بهما منذ عدة أشهر.
ويبدو أن التقليد السياسي الجديد ينطوي على حالة سياسية مستجدة تخفي وراءها ألغازا في حاجة إلى حل، وتلخص صعوبة إجراء تعديل حكومي كما دأبت عليه السلط السابقة، إلى درجة أنه صار لا يمكن البوح بأسباب إقالة هذا الوزير أو ذاك، وكأن السلطة تتعاطى مع إدارة بسيطة وليس مع رجل كان على رأس قطاع حيوي يمثل شريان الحياة في الدولة الحديثة.
نوايا خفية
الوزير بكاي يحسب على جيل الاستقلال، وهو خريج الجامعة الجزائرية بشهادة دكتوراه في الاقتصاد والتجارة. تدرج في مختلف المناصب والمسؤوليات المركزية، فكان بذلك شخصية تكنوقراطية لا تكوين ولا سند سياسيا أو حزبيا لها.
الجزائر تتجه إلى فتح المجال أمام القطاع الخاص والأجنبي للاستثمار في النقل الجوي والبحري، مما سينهي حالة الاحتكار التي ظلت بيد الشركتين الحكوميتين
رأسماله الوحيد كان سيرته الإدارية التي أوصلته إلى وزارة النقل وقبلها عيّن وزيرا منتدبا للتجارة الخارجية، ليتم الاستغناء عنه بشكل مفاجئ، وبمبرر “الخطأ الفادح” دون أي توضيحات أخرى.
اقترب بكاي في الأسابيع الأخيرة من دوائر النفوذ واللوبيات داخل قطاع النقل، خاصة الشركات الحكومية التي تستقطب أبناء ومقربي المسؤولين الكبار في الدولة، ولذلك توصف في الجزائر بـ”الشركات العائلية”، كما هو الشأن بالنسبة إلى الخطوط الجوية الجزائرية التي أوردت تقارير بشأنها أن غالبية مناصب المسؤولية فيها -ابتداء من مدير وكالة فما فوق- يُستحوذ عليها من طرف الحاشية المتنفذة في الدولة.
وذكرت تقارير محلية أن وزير النقل المقال كان قد اصطدم بالعديد من الاختلالات الكبيرة في قطاعه، وهو ما عبر عنه في أحد تصريحاته بالقول “لقد وجدت إحدى شركات النقل تسير بـ15 مديرا وتدفع الرواتب بالقروض البنكية”، دون أن يشير إلى هوية تلك المؤسسة، لكن الأصابع تتوجه في الغالب إلى الخطوط الجوية الجزائرية أو إلى مؤسسة النقل البحري.
وكان قد انتقد بشكل صريح تسيير وإدارة الخطوط الجوية التي تشغّل نحو عشرة آلاف موظف، وقدم تطمينات لهؤلاء بعدم اللجوء إلى التسريح، لكنه ذكر أن إعادة التوزيع والتنظيم حتمية لا مفر منها لإنقاذ الشركة من الإفلاس.
ثمن إزعاج المصالح
نقل عن الوزير المقال قوله إن “نوايا خبيثة كانت تخطط لبيع باخرة طارق بن زياد حديدا بالميزان، وإن براثن الفساد لا تزال موجودة بشركة النقل البحري للمسافرين، وإن حجز السفن الجزائرية الخمس كان معضلة تنم عن فساد كبير، ولقد قمنا بتغييرات في مسيري شركات النقل البحري لتحسين خدماتها، خاصة وأن بعض شركات النقل البحري توجد في وضعية صعبة”.
الجزائر تتجه إلى فتح المجال أمام القطاع الخاص والأجنبي للاستثمار في النقل الجوي والبحري، مما سينهي حالة الاحتكار التي ظلت بيد الشركتين الحكوميتين، وهو ما يطرح فرضية اللوبيات والمصالح في ظل الضبابية التي تخيم على الاستثمار، ما يكون قد عجل بتنحية بكاي الذي أبان خلال الفترة الماضية عن نواياه في تحريك المياه الراكدة، ولذلك جاءت إقالته مفاجئة.
وقد تم منح 11 رخصة في النقل البحري للمسافرين والبضائع، و15 رخصة في النقل الجوي، لكن وضع النقل بالسكك الحديدية كان أكثر إزعاجا، فقد كشف بكاي أن كتلة الأجور تمثل أربعة أضعاف المداخيل المحققة، وأن التبذير كان واضحا في تسييرها لأنها تتضمن 52 مديرا.
وأعاد هذا السيناريو إلى الأذهان حادثة وزير التجارة الراحل بختي بلعايب، الذي كان ضمن طاقم إحدى حكومات الرئيس المعزول عبدالعزيز بوتفليقة، حين صرح للصحافيين بالقول “لا أستطيع غلق حتى محل لبيع البيتزا في العاصمة، لأن صاحبه يكون شخصية نافذة في الغالب”، وسرد في نفس التصريح حادثة أكثر غرابة، عندما جاءه أحد أباطرة الاستيراد إلى مبنى الوزارة مهددا إياه أمام الملأ، لا لسبب سوى أن الوزير رفض إفراغ شحنة من قطع الغيار المغشوشة في الميناء كان قد استوردها الرجل ويريد تسويقها في البلاد.
وضع النقل بالسكك الحديدية يبدو أكثر اضطراباً من بقية القطاعات، فقد كشف بكاي أن كتلة الأجور تمثل أربعة أضعاف المداخيل المحققة، وأن التبذير كان واضحا في تسييرها لأنها تتضمن 52 مديرا
الوزير المذكور بقي في منصبه إلى أن وافته المنية، أما “الخطأ الفادح” الذي ينسب إلى بكاي فلا يزال طي الكتمان؛ فإما أن يكون قد ارتكب مخالفة جسيمة تستدعي إطلاع الرأي العام عليها أو يكون قد تعرض إلى سيناريو مشابه، ولم تجد السلطة إلا المصطلح الجديد لتبرير قرارها وإرضاء أصحاب النفوذ، وهو ما يعيد عهد بوتفليقة إلى الواجهة في أبشع صوره، حين دبر زعيم الأوليغارشية علي حداد عام 2017 مخطط رئيس الوزراء آنذاك، والذي هو الآن يشغل منصب رئيس الجمهورية ذاته.
ولا يستطيع أي أحد في الجزائر إلى حد الآن الجزم بالخلفيات الحقيقية وراء الإقالة المفاجئة لبكاي، وقبلها إقالة الوزيرين لزهر هاني وعمار بلحيمر، في تغيير حكومي وصف بـ”المحدود”، بينما كان الشارع الجزائري ينتظر تعديلا عميقا من أجل ضخ دماء جديدة في جهاز حكومي لم تثبت جدارته إلى حد الآن، لكن “الخطأ الفادح” حجب الرؤية عن التقاليد الطبيعية لشؤون الدولة، وفتح المجال أمام تأويلات غامضة. فقط اكتفى بيان الرئاسة المقتضب بتبرير القرار بـ”خطأ” ارتكبه الوزير، دون ذكر طبيعة ذلك الخطأ، وذكر أن “الوزارة ألحقت بوزارة الأشغال العمومية مؤقتا”، في انتظار تعيين وزير جديد للقطاع.
وبتغييب “التعديل الحكومي” التقليد الذي سارت عليه البلاد إلى غاية تنحية رئيس الوزراء السابق عبدالعزيز جراد، تثار علامات استفهام حول دلالة ومغزى تعاطي الرجل الأول مع الحكومة ككيان إداري يقيل ويعيّن فيه دون المرور على تقليد التعديل، إذ يبدو أن الرئيس تبون ينوي سن تقليد جديد في ممارسة مهامه؛ فبعد فتح مجال التواصل مع الشارع -عبر استضافته لممثلين لوسائل إعلام محلية من حين إلى آخر، حيث تنتقى بعناية شديدة وتختار لها الأسئلة ويتم تسجيلها قبل بثها على التلفزيون الحكومي وأداء المقص لمهامه، فضلا عن تكثيف اجتماعات هيئة المجلس الأعلى للأمن، التي هي هيئة استشارية بموجب دستور البلاد، ونادرا ما كانت تلتئم في السابق، لكن رئيس الدولة فعّل نشاطها وتحولت مقترحاتها إلى قرارات دولة معدة للتنفيذ- ها هو الآن بصدد سنّ تقليد في التعيين والتنحية من الحكومة بدعوى “الخطأ الفادح”.
وما زال الغموض يكتنف مصير الحكومة الحالية، فبعد التسريبات التي تحدثت منذ عدة أشهر عن تعديل عميق اكتفى الرئيس تبون حينها بإقالة وزيرين فقط، مع استقدام عبدالرحمن راوية لحقيبة المالية، بعدما ألحقت لعدة أشهر بمهام رئيس الوزراء أيمن بن عبدالرحمن. وفيما تحدثت بعض المصادر عن خلافات عميقة بين دوائر السلطة حول هوية وشكل الحكومة آنذاك، حيث كان كل طرف يضغط من أجل وضع الموالين له في مناصب وزارية، اكتفى الرئيس تبون بالقول في تصريح لوسائل إعلام محلية إن “التغيير سيكون في حالة ارتكاب الأخطاء، ولن يكون رد فعل على الحملات، لأن العناصر التي تشتغل هي التي تلفت الانتباه”.
حجب الحقيقة
وهناك وجوه وزارية عديدة كانت مرشحة للاستبعاد بسبب فشلها في تسيير قطاعاتها وتسجيل اختلالات كبيرة فيها، على غرار التجارة؛ حيث لا يزال الوزير كمال رزيق محتفظا بمنصبه رغم الانتقادات التي توجه إليه بسبب أزمة الندرة التي طالت بعض المواد الغذائية واسعة الاستهلاك، فضلا عن القرارات غير المفهومة التي اتخذها مثل “حظر بيع زيت الطبخ للقصر”، لكن الرئيس تبون ما زال يحتفظ به في طاقمه الوزاري.
وبهذا القرار يكون قطاع النقل قد استهلك وزيرين في ظرف 13 شهرا، ما سيكرس حالة عدم الاستقرار التي تسود، والتي تترجم حجم المشاكل التي يتخبط فيها، لاسيما تلك المتصلة بالشركات المملوكة للدولة، على غرار الخطوط الجوية والنقل البحري، ووضع سفن النقل، فضلا عن بواخر البضائع التي باتت تحجز تباعا في بعض الموانئ الأجنبية.
لكن إذا كانت جريرة سلف بكاي في نفس القطاع -والذي أقيل بنفس المبرر- هي الصفقة التي أبرمتها شركة الخطوط الجوية مع ممول أجنبي لتزويدها بوسائل الإطعام المستعملة في الرحلات الجوية، فضلا عن جنسيته المزدوجة بحسب تقارير محلية، فإن هذا لا يبعد فرضية مماثلة مع الوزير المقال مؤخراً، وإنما يترجم تستر السلطة على كوادرها وحجب الحقيقة عن الجزائريين، الأمر الذي يدينها هي أولا ويثبت عدم قدرتها على اختيار رجالاتها.