المغرب، دبلوماسية من دون انفعالات

الصراف

متانة العلاقات مع الولايات المتحدة وفتور العلاقات مع روسيا، كان يمكن، بسهولة، أن يدفعا المغرب إلى التصويت لصالح إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة.

بدلا من ذلك، امتنع المغرب عن المشاركة في الجلسة أصلا.

يقول هذا الأمر ثلاثة أشياء على الأقل، أبعد من مجرد ممارسة سياسة خارجية مستقلة. فهي سياسة لا تتأثر بالصداقة ولا بالفتور، أولا، وهي ليست سياسة ردود أفعال ولا نكايات مع أحد، ثانيا، حتى أنها لا تقايض موقفا بمصالح آنية، ثالثا.

بمعنى آخر، إنها دبلوماسية باردة العقل، تقول ما تراه مناسبا من دون انفعالات.

الغياب عن جلسة الجمعية العامة كان أبعد من مجرد الامتناع عن التصويت. فهو أبلغ كل الأطراف، بما فيها الجمعية العامة نفسها، أن المغرب غير معني جملة وتفصيلا بالصدام الذي نشأ بين القوى العظمى. فهو صدام ضار بالاستقرار العالمي، وينطوي على مخاطر لا حدود لها، لأنه قام على مشاعر كراهية وعداء متبادل، كان هو الذي وضع أوكرانيا على حافة الهاوية. بمعنى أن أسبابه أبعد من هذا البلد نفسه الذي تحوّل إلى ضحية.

وكائنة ما كانت “المشاعر”، فإنها تنطلق من غرائز. والغرائز ليست من السياسة في شيء.

لم يكن الأمر درسا في الدبلوماسية. إنه درس في السياسة.

المغرب قوة إقليمية تملك جيشا بقدرات ضخمة. إلا أنها قوة ليس للجيش فيها سلطة قرار. إنما القرار هو قرار المؤسسة، وعلى رأسها صاحب الكلمة الفصل. وللجيش واجب وحيد: الدفاع عن حياض البلاد، فقط

من السهل لأي دولة “تجريبية” أن تنفعل. وأن تقاطع وأن تُصعد، وأن تضر بنفسها أكثر وهي تشد نياط التوتر، فتصيب نفسها بوعكة تزيد الخسائر وتُضر بالمصالح. إلا أن دولة تمارس أدوارها بهدوء، عادة ما تصد الانفعالات بهدوء أكثر، يبلغ حد التجاهل. شيء يشبه أن تجد نفسك أمام شخص يصرخ ويلعلع، فتدير ظهرك له وتتركه لما هو فيه.

الدول التجريبية يمكنها أن تهدم حجارة جدرانها أيضا. وهذا ما لا يتناسب مع اتزان عاقل.

وفي المسألة ما يبرر الاعتقاد بأن الانفعال أو الانخراط فيه بتأثيرات انفعالات الآخرين ينطوي على نقص في الثقة بالنفس. بينما المغرب أوزن من قوة عظمى من ناحية هذه الثقة، من دون أسلحة نووية، ولا دروع أكثر من درع الاعتداد بالنفس.

الملك محمد السادس يقود بلادا بإرث مديد، تراكمت فيه المعارف، كما تراكمت فيه الخيارات، وأينما وجدته حاضرا وجدت اتزان الموقف.

دول عربية أخرى صارت تأخذ الوجهة نفسها، ثقة بالنفس، وثقة بصواب المنهج العاقل، والبارد في العلاقة مع كل دول العالم الأخرى.

لم يبعث المغرب برسالة إلى روسيا. ولا قال شيئا للولايات المتحدة. ولا نقص تضامنه مع شعب أوكرانيا، ولكنه رأى الأمر زاوية الحاجة إلى علاقات دولية من دون انفعالات، تنظر إلى المصالح، بروح الصداقة والرغبة بتسوية الخلافات، لا بروح حفر الخنادق.

أما الذين يحفرون الخنادق ويقطعون الأواصر، فإنهم كما الشخص الذي تركته يلعلع، لا يهدمون إلا حجارة جدرانهم.

وما من مشكلة، أو خلاف، إلا ويمكن للعاقل والمتزن أن يجد لها حلا، إذا ما وضع المرء انفعالاته جانبا، وبنى على ما هو نافع.

الدرس موروث أيضا. فالمغرب استعاد أراضيه بعد تحررها من الاستعمار الإسباني، بتظاهرة سلمية، حمل الآلاف والآلاف أعلام بلادهم ومضوا ليقولوا للعالم بأسره هذه أرضنا التي حتى وإن جاز أن تُسترخص لها الأرواح، فلا حاجة إلى أن تكون سببا لحرب أو نزاع إقليمي، أو أي انفعال أصلا.

موقف صلب، على قاعدة سياسية صلبة. تعرف الحق، وتعرف كيف تسترده من دون دبابات ولا طائرات ولا مدافع. كل هذا كان موجودا تحت اليد، إلا أن الملك الراحل الحسن الثاني وضعه جانبا ليحمل الأعلام والزهور إلى باقي شعبه.

الملك محمد السادس يقود بلادا بإرث مديد، تراكمت فيه المعارف، كما تراكمت فيه الخيارات، وأينما وجدته حاضرا وجدت اتزان الموقف

شيء كان يمكن لروسيا أن تفعله! إلا أن جهالة التجريبية هناك ما تزال هي الماكينة التي تستفز المشاعر، وتحرك الدبابات، فتحول الحق إلى باطل.

قبل أن يدفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدبابته وطائراته لكي يغزو أوكرانيا، كان يجب أن يزور المغرب ويبقى فيه ستة أشهر! ليتعلم أن الدبابات ليست هي القوة. وأن العسكرة هي سلوك تجريبي لدولة لم تتعلم كيف تتزن، وأن العساكر لا يصلحون لكي يُملوا سيطرتهم على السياسة أو أن يقرروا كيف تكون الحلول.

المغرب قوة إقليمية تملك جيشا بقدرات ضخمة. إلا أنها قوة ليس للجيش فيها سلطة قرار. إنما القرار هو قرار المؤسسة، وعلى رأسها صاحب الكلمة الفصل. وللجيش واجب وحيد: الدفاع عن حياض البلاد، فقط.

وتلك مؤسسة لا تنفعل. ولا تهدم أو تقطع أواصر، فتغرق في بئر ردود الفعل والعواقب.

أوكرانيا بلد شقيق بالنسبة إلى روسيا. وهي جزء من مجالها الأمني، ولكنها أكثر بكثير من كونها هذا “الجزء”. إنها تاريخ مشترك وثقافة ومصالح وجغرافيا مشتركة أيضا. ولئن كانت التجارب لا تتشابه بالضرورة، فإن مثالا، أو درسا من الحسن الثاني، كان سيجعل من حملة أعلام الشراكة والانتماء والترابط التاريخي بديلا حقيقيا للدبابات والصواريخ والمدافع.

فقط جهالة “القوة العسكرية”؛ جهالة الانفعال، هي التي دفعت الدولة التجريبية في روسيا، ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، إلى أن تأخذ بالطريق الخطأ.

وروسيا ليست سوى بلد عمره 31 سنة فقط، ورث القوة والغطرسة، ولم يرث العقل، لأن “عقلها” السابق كان هو نفسه عقلا مشوها، ضيق الأفق، منفعلا، وتنقصه القدرة على التفاعل.

حوّل الأميركيون أوكرانيا إلى خندق لكي تسقط بالقوة، فيحاصرون قلة العقل في موسكو بالعقوبات، ولكي تعلم أنها ليست “قوة عظمى”، ولا يحق لها ما يحق للولايات المتحدة.

ولقد كان من الأولى، بل من غاية الحكمة، ألا يكتفي المغرب بالامتناع عن التصويت، بل أن يترك الذين يصرخون على بعضهم يصرخون، فلا تكسب الأزمة حلا.

الآن، فات الأوان. خسرت روسيا أوكرانيا إلى الأبد. وخسرت نفسها ومكانتها. ولم يبق إلا أن تراها تدفع ثمن الخطيئة، ويقودها سوء التصرف إلى حافة التهديد باستخدام الأسلحة النووية.

قدم المغرب درسا في أن السياسة بالانفعال ليست من السياسة في شيء، وأن القوة العسكرية ليست هي القوة الحقيقية، وأن التجريبية لا تبني مصالح، وأن العسكر والعسكرة ما أن تقود بلدا حتى تهدمه.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: