الغاز الجزائري.. النعمة والنقمة

بليدي

مسارعة الرئيس المدير العام لشركة سوناطراك الحكومية المحتكرة لقطاع الطاقة في الجزائر، إلى القضاء لإثبات التلاعب والتأويل الذي لحق تصريحه لصحيفة “ليبرتي” المحلية الناطقة بالفرنسية، رأى فيها البعض رسالة مباشرة للسفير الروسي في الجزائر لطمأنه بلاده على التزامات الجزائر بشراكتها الاستراتيجية وعلاقاتها التاريخية مع موسكو، وتكذيب ما روجت له الصحيفة، على أن الجزائر على استعداد لتعويض الإمدادات الروسية إلى أوروبا.

الأزمة في أوكرانيا والتداعيات في الجزائر، فهي واقعة رغما عنها بين مطرقة الروس وسندان الأوروبيين بسبب الغاز، ليتحول بذلك مصدر الدخل الوحيد من نعمة يفترض فيها التوسيع على الدولة، إلى نقمة تضعها تحت ضغوط غير مسبوقة نظرا للاستقطاب القائم حول أبرز سلاح يمكن أن يحسم معركة روسيا وأوروبا.

ورغم إمكانياتها المتواضعة في مجال الطاقة مقارنة بمنتجين آخرين في منظمة الأوبك وخارج الأوبك، إلا أن قربها الجغرافي من أوروبا جعلها في صدارة الوجهات المفضلة للمستهلكين، ولذلك بدأت الضغوط تتصاعد عليها مؤخرا، سواء من طرف الأوروبيين الراغبين في تأمين كميات إضافية، أو من طرف الروس المعولين على شريكهم التاريخي لعدم المساس بورقة الطاقة التي بحوزتهم من أجل فرض شروطهم في الأزمة الأوكرانية.

منذ عقود لبس النفط والغاز الجزائري ثوب الالتباس بين النعمة والنقمة، وجاءت الأزمة الأوكرانية لترسم علامة استفهام عميق وتعيد طرح فشل السلطات المتعاقبة في التحرر من هذا العبء، الذي كان بالإمكان توظيفه كرافد مهم لتحقيق نهضة شاملة في البلاد، لكنه ظل على هذا النحو إلى أن صار مصدر تهديد للقرار السيادي في البلاد.

الكثيرون يرون أن ثروة النفط والخطاب السياسي الموروث عن ثورة التحرير هما اللذان حشرا البلاد في هذا المأزق، فثقافة الريع صنعت الاتكال والكسل في المجتمع وفرخت ممارسات العيش على ضرع الدولة والفساد والمحسوبية والشعارات الجوفاء، ففقد العمل والإبداع قيمتهما ومغزاهما، وفوق ذلك أصاب الحكومات المتعاقبة بالتكلس والجمود.

ومنذ ثمانينات القرن الماضي، خرج خطاب الاقتصاد البديل والتحرر من تبعية النفط، لكن مرت أربعة عقود والبلاد لا زالت رهينة ما يجود به باطن الأرض على من بسطحها، وها هو الآن القرار السيادي على المحك، فمن تُغضب الحكومة ومن ترضي، هل ترضخ لطلبات الروس وتفقد شركاءها الأوروبيين، أم ترضي هؤلاء وتغضب شريكها الاستراتيجي والتاريخي؟

صحيح أن العلاقات الدولية تقوم على المصالح، والتنازلات والمكتسبات هي من صميم اللعبة الدولية، لكن تبقى السيادة هي الضامن الوحيد للقرار الاقتصادي والتجاري

في كلا الحالتين البلاد واقعة تحت ضغط غير مسبوق، فرغم أنه من حقها تحقيق عائدات جديدة لخزينتها المستنزفة، إلا أنها تخشى غضبة صديق، ورغم أنه من حقها أن تتصرف في ثرواتها فإنها أيضا تخشى غضبة شركائها الآخرين، والخشية كل الخشية أن يكون الغاز في باطن الأراضي الجزائرية لكن قراره خارج يد الجزائريين.

ومن حق الجزائريين أن يتساءلوا الآن “ما الجدوى من ثروة لا نملك سيادتنا عليها، أليس من حقنا أن نبيع ونشتري متى نريد وكيفما نريد ومع من نريد، أليست هذه نعمة منّ الله بها علينا؟ أم أنها نقمة ستجر علينا الويلات وقد تتحول إلى ملك مشاع للمستهلكين يأخذون منه ما أرادوا ومتى أرادوا؟”.

عندما اتصل الأميركان بمسؤولي الشركات النفطية العاملة في البلاد، لم يمروا عبر قناة الحكومة احتراما لتقاليد الدبلوماسية وأعراف الدول، وبحثوا، أو بالأحرى أمروا، بإنتاج وضخ كميات إضافية وكأن “الرزق ورثوه عن أجدادهم”، وليس ملكا للآخرين، وهذه إحدى تجليات النقمة التي جرها علينا النفط والغاز.

اعتبر البعض الطفرة النفطية الأخيرة آخر فرصة للدول المنتجة، فإما أن تستغل عائداتها في تحقيق نهضتها الشاملة، أو تضيع الفرصة إلى الأبد.

الجزائر من الصنف الثاني الذي ضيع الفرصة فبعد تبديد أكثر من ألف مليار دولار، صارت تتمسك بما بقي لسد الرمق، والأنظار كلها على أخبار السوق والأسعار والإنتاج والغاز الصخري وغيرها.

في ذكرى تأميم المحروقات تحدث الرئيس عبدالمجيد تبون عن إنجازات قطاع الطاقة وعن جهود فرض السيادة، لكنه تلافى الحديث عما بقي من تلك السيادة، وكأنه سلّم بأن القطاع لم يعد ملكا للجزائر بمنطق الشراكة الاقتصادية والمصالح، وفوق ذلك أوعز لحكومته بأن تحضر قانونا جديدا للاستثمار في ظرف شهر، من أجل تقديم إغراءات جديدة لامتصاص ما بقي في باطن الأرض.

لقد جاء وزير الخارجية الإيطالي جون لويجي دي مايو إلى الجزائر بحثا عن المزيد من الغاز لبلاده، ومن حق الجزائر التحكم في مصالحها التجارية والاقتصادية، لكن الأمر لم يعد كذلك، فبعد أيام فقط سيحل وفد روسي لاستطلاع أمر الغاز الجزائري، وفي المحصلة أن هذا الغاز الذي كان يفترض أن يوظف في التوسيع على معيشة الجزائريين، صار مصدر صداع حقيقي، فالحكومة الآن في موقف “حيص بيص”، ترضي من وتغضب من؟ وأين موقع الجزائريين أصلا في المعادلة؟

صحيح أن العلاقات الدولية تقوم على المصالح، والتنازلات والمكتسبات هي من صميم اللعبة الدولية، لكن تبقى السيادة هي الضامن الوحيد للقرار الاقتصادي والتجاري، وإذا كان اتفاق استراتيجي يكبل مصالح أخرى يصبح عديم الجدوى. وربما في الحالة الجزائرية أن أول من أضاع مصلحة البلاد، هو الإدارة التي وضعت كل بيضها في سلة المحروقات منذ الاستقلال إلى الآن.

ولولا أن الرهان تغير إلى وجهات ومصادر أخرى، لما وجدت البلاد نفسها بين مطرقة هذا وسندان ذاك، وكان بالإمكان، كما تم التخلص من المديونية ومن تعدد مصادر التموين بمادة القمح، أن يتم التحرر ولو نسبيا من هذه النقمة التي ضمنت معيشة البلاد لعقود، لكنها تكاد تعيد إنتاج حادثة مروحة (مذبّة) جديدة.

اترك رد

تعليق 1
  1. الأستاذ عبدالحكيم عبدلاوي يقول

    الدب الابيض الروسي يهدد أوروبا بموجات الصقيع!!

    حينما نتحدث اوكرانيا نستحضر روسيا بكونها ترى فيها الأبن العاق الذي ينصت تارة و يؤدب تارة أخرى لكن لا ينفصل عن امه مهما كانت الضروف. ترى فيه روسيا الدرع الواقي سياسيا و اقتصاديا تجاه الحملات الأوروبية السلمية و الحربية. و هي تعلم جيدا أن اوكرانيا مفتاح أوروبا و امريكا تجاه البوابة الروسية .
    اوكرانيا هي مصير أعضاء النيتو الى حد خنقهم باختلاف مللهم و نحلهم . اوكرانيا هي العصعص الذي تحيى على انقاظه السفخوزات و الكلخوزات السوفياتية البائدة. اوكرانيا هي الاكتفاء من القمح الذي يكفي كل الدول المغاربية .
    روسيا ترى في اوكرانيا الجبنة التي تقتات باطرافها وتتبجح بغازها و به تغمز للاتحاد الأوروبي اما تلبية المصالح الروسية او الموت بموجات الصقيع.
    شاء الاتحاد الاوروبي أن يستبشر بالغاز الجزائري لكن لجمام الكابرانات التقليدي لازال بيد روسيا رغم تضاهرهم بالولاء للجمهورية الخامسة.
    هذا يعني انه لا مناص من التعاون الاوروبي الأمريكي مع المملكة المغربية لتعديل المعادلة . مصير السياسة الأمريكية و الأوروبية مرهون على المدى القصير و البعيد بمدى وقوفهم مع المغرب و قضاياه الاستراتيجية بالتحام وقفة رجل واحد خاصة فيما يتعلق بوحدته الترابية . سر المعادلة يتمحور حول أنبوب الغاز النيجيري الذي سيقلم أظافر الدب الابيض الروسي و الدور الاستراتيجي الذي يلعبه المغرب في نبظ هذا الشريان. إن القوى الاقتصادية العالمية و حتى العقائدية ( روسيا. الصين. إيران ) تراقب منطقة الشمال غرب افريقي عن كتب و تستفيد من كل الأوراق و الأزمات بالمنطقة و على رأسها الصراع المفتعل بين الجارين الشقيقين.
    امريكا لا يسعها منازلة ثلات قوى في أن واحد . أوروبا في سن عجوز و بدأ الكساد يخيم اجواءها. و الاتحاد يولد بعد كل دورة انتخابية من جديد ولادة عسيرة و مخاض اليم و مهدد بالتفكك في أي اونة.
    كلها عوامل تمنح المملكة المغربية الشريفة لواء انقاذ الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط بما يمكن إنقاذه. و هذا ما أشارت اليه السياسة الرشيدة لصاحب الجلالة المنصور بالله و ثبت خطاه الملك محمد السادس . السياسة التي أعطت الأولوية للانبوب النيجيري الذي يعتبر من أهم العوامل التي تطفئ الحرب الباردة المستحدثة و سبيل خنق الدب الابيض و كابراناته بالجزائر و الطفيليات بالحمادة.
    هذا الأنبوب شريان الانتعاش الاوروبي و الاستقرار الأفريقي و تخفيف العبىء عن امريكا و متانة الحلف الأطلسي.
    فهل من اذان صاغية؟

%d مدونون معجبون بهذه: