رجاء مكاوي مبعوثة العاهل المغربي إلى الفاتيكان

ماموني

شخصية فريدة في تركيبتها النفسية والاجتماعية والأكاديمية والمهنية، استطاعت أن تترك بصمة وقيمة مضافة في مجال الدبلوماسية الرسمية والموازية عبر إظهار دور المغرب في التعريف ونشر الإسلام المعتدل والوسطي مع كل الأديان سواء في المغرب أو في أفريقيا، إلى جانب مساهمتها في تأطير الشأن الديني في أوروبا.

رجاء مكاوي الدبلوماسية والخبيرة القانونية متعددة المشارب، التي جعلت منها المعرفة وجها مميزا يعنى بأحوال وقضايا المرأة والطفل والرجل على حد سواء، يتعدى المحلي نحو الكوني في عالم متعدد الهويات والثقافات.

تقول عنها أسرتها إنها لا تحتمل كلمة الفشل ولا تريد أن تسمعها، فهي الشغوفة بحب المعرفة كسلاح لتحقيق الطموح، وبفعل جرأة وتحدٍ امتلكتهما بعزم وإصرار باتت أول امرأة تحصل على دكتوراه دولة في القانون الخاص في العام 1997. ونظرا إلى علو كعبها في مجال تخصصها القانوني فقد كانت أيضا أول امرأة تعتلي منبر الدروس الحسنية أمام العاهل المغربي الملك محمد السادس.

بين يدي الكرسي الرسولي

مكاوي تعدّ أول من أسس وحدة قانون الصحة في أفريقيا وفي العالم العربي، وهي فكرة تنسجم مع تطلعاتها واهتماماتها المتنوعة

تحدٍّ لم تخفه مكاوي وهي تنطلق بحماس شديد في منصبها سفيرة للعاهل المغربي في الفاتيكان منذ ثلاث سنوات، بنفَس متجدد وفكر منفتح ينهل من خبرة بلدها في التعامل مع الأديان السماوية. فمكاوي تعتبر العناية بالكنائس والبِيَّع المختلفة ومقابر غير المسلمين، دليلا عمليا على احترام المغرب لكافة الديانات وعنوانا للتسامح الديني والتطبيق العملي للتعايش والوئام. أما إنشاء مؤسسات للحوار بين الثقافات تحت رعاية العاهل المغربي، فتراه مكاوي مؤشرا على كون المغرب دوما مؤتمنا على حماية اليهود المغاربة ومن هاجر إليه واستوطنه من المسيحيين، ناقلة صورة بلادها التي تهتم بوضعية المرأة واستثمار تفوقها.

تواجد مكاوي على رأس هذا المنصب غير العادي يقتضي توافرها على ثقافة دينية وقانونية جد متقدمة، ودراية بالسياقات السياسية والدبلوماسية للأحداث المؤثرة، فبلادها تعرف كيف تتعامل مع المتغيرات بنفَسِ متسامح، وهي تذكّر المسيحيين في إيطاليا وغيرها بموقف المغرب حين تعرض الرهبان عام 1996 لمذبحة داخل ديرهم في تِبحرين بالجزائر قتل فيها 7 منهم ونجا اثنان، عندها وجد الناجيان ملجأ وترحيبا وأمانا في دير سيدة الأطلس، الموجود نواحي ميدلت جنوب شرق المغرب.

مكاوي تربط السلم المجتمعي ببناء الفرد والأمة كمعادلة في التنمية والازدهار، وهذا يتطلب استحداث أطر أو مؤسسات فكرية ناظمة للمثقفين المبدعين، بحيث تساعد على الحد من الانقسامات والتشتت الفكري

بعد عودة بابا الفاتيكان من زيارته إلى المغرب في العام 2019 قرّر ترقية رئيس أسقفية الرباط إلى رتبة كاردينال، وهي أسمى رتبة في هرمية الكرسي الرسولي. وأن يُرقّى أسقف من دولة إسلامية ليس فيه مواطنون مسيحيون وإنما أجانب ومهاجرون فقط، رسالة رفيعة وذات دلالات عميقة موجهة مباشرة إلى العاهل المغربي كعربون تقدير واحترام لشخصه.

وعندما تتحدث مكاوي عن العلاقات الثنائية، فهي لا تقتصر على الجوانب البرتوكولية، بل تربط تلك التطورات بالتسامح والتعاون والأخوة في الإنسانية لا كشعارات فقط، بل كقيم يسعى الطرفان لإنزالها على أرض الواقع دون معيقات، ودون استعلاء أي طرف على الآخر، فالكل سئم من الصراعات والحروب الباردة والساخنة.

السفيرة المغربية لدى الفاتكان تحمل رؤى وقيما تشرّبتها في مسيرتها الحياتية والعملية، مكنتها من نقل فكر المغرب إلى العالم الغربي وخاصة في عاصمته الدينية الفاتيكان، باعتبار أن تلك المؤسسة التاريخية المغربية كانت دائما مؤتمنة على الجميع، ولهذا اتفق كل المتعاقبين على منصب رئيس أسقفية الرباط في المغرب على التنويه بخصوصيات المملكة وملكها والأدوار الطليعية التي ما فتئ يفاجئ بها العالم، عبر مده اليد بالمساعدة في زمن المحن.

وعليه تربط مكاوي السلم المجتمعي ببناء الفرد والأمة كمعادلة في التنمية والازدهار، وهذا يتطلب استحداث أطر أو مؤسسات فكرية ناظمة للمثقفين المبدعين، بحيث تساعد على الحد من الانقسامات والتشتت الفكري، من خلال تنوير المجتمع وتحريره من نمطيات ذهنية عقيمة وتصحيح المفاهيم المنتشرة في الفكر العربي المعاصر.

رسالة معرفية

مكاوي تصنف ضمن فئة العالمات اللواتي يتحملن مسؤولياتهن لإصلاح الاختلالات الاجتماعية والدينية في بيئاتهن

كانت أول مرة ينفتح فيها منبر الخطابة بالقصر الملكي العامر على امرأة لتلقي درس ديني أمام الملك محمد السادس في رمضان العام 2003 ضمن “الدروس الحسنية الرمضانية”، هذا الدرس الرمضاني الذي قدمته رجاء مكاوي أمام العاهل المغربي بصفته الدينية والسياسية، يعني أن المغرب يعطي أهمية للمرأة ويشجعها على الاجتهاد في القضايا التي كانت حصرا على الرجل في تخصصه، وهو حضور نسوي بمثابة رسالة معرفية وحقوقية وإرشادية لأهمية دورهن في الاقتراب من النص الديني وقضايا الفقه كمحاولة للفهم والتوضيح من زوايا وتخصصات أخرى.

وجدت مكاوي نفسها في الدرس الحسني الذي قدمته أمام الملك تحت عنوان “النظام الأسري الإسلامي مقارنة بما عليه الوضع الأسري في المجتمعات الغربية”، برؤية متقدمة جدا للأدوار التي من الممكن أن تضطلع بها المرأة المغربية، واجتهاد وتحد في مجال يحتاج إلى أسس قانونية واجتماعية غاية في الدقة لمقاربة مثل هذا الموضوع الشائك.

إنشاء مؤسسات للحوار بين الثقافات تحت رعاية العاهل المغربي تراه مكاوي مؤشرا على كونها مؤتمنة على حماية اليهود المغاربة ومن هاجر إلى المغرب واستوطنه من المسيحيين

وكعضو في المجلس العلمي الأعلى والهيئة العليا المكلفة بإصلاح القضاء، تعتقد مكاوي أن النزوع إلى فكر التطرف، شيء استثنائي وطارئ ولا أصل له في أرض المملكة المغربية، والنادر لا حكم له، لأن المجتمع المغربي قد طور وسائل تلقائية للتصدي لكل النزعات الخارجة عما توافق ودأب عليه المغاربة.

سواء وهي طفلة أو شابة وزوجة كانت شديدة الحركة والنشاط والحيوية والالتزام بالمسؤوليات، قيم تشربتها داخل أسرتها بمدينة وزان، لكنها تصف متأسفة بعض الجيل الشاب بأنه جاهل بالكثير من القواعد الشرعية والقيم الأخلاقية، وبواقع معيشي استمرّ لقرون في المغرب، من منطلق أن القيم التي يستوعبها الشباب أصابها الكثير من التلوث والمغالطات والاختلال، ولذلك فالحاجة ماسة لتعريفه بقيم السماحة والود والوسطية والاعتدال والتعارف والإقبال على الآخر والإحسان إليه.

وفي زمن الانكفاء على الذات ونبذ الآخر والغلو والكراهية، ترى مكاوي أن رد المشرّع في دستور 2011 كان قويا متصديا لنزعات التشكيك في قيم التعايش واحترام التنوع والسعي الحثيث لتحريف المرجعيات والتعصب والتطرف، مشددا على واجب تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية، بقدر ما جعل من واجبه حماية تلاحم وتنوع مقومات الهوية الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها المتعددة.

ثراء الشخصية المغربية

مشارب مكاوي المعرفية المتعددة تجعل منها وجها مميّزا يتعدى المحلي في عالم متعدد الهويات والثقافات

كبرت مكاوي في أسرة محافظة بالمفهوم الفقهي والاجتماعي. والدها محمد ناجي كان أستاذا للغة العربية تخرّج في جامعة القرويين وعمل محتسبا لوزان، علاوة على كونه أحد أعيان المدينة ومثقفيها، ومغادرة ابنته للبيت كانت فقط للتحصيل العلمي وبعدها نحو بيت زوجها بعد حصولها على الثانوية. ويبدو أن زوجها قد أمدّها بجانب كبير من حرية الاختيار والقرار بعدما حقق لها أمنية متابعة دراستها بجامعة الرباط، حتى غدت أستاذة بكلية الحقوق جامعة محمد الخامس، محققة نجاحا في عدد من المجالات والتخصصات، رغم أن توجهها بداية مشاورها الجامعي كان إلى المجال الأدبي. إلا أنها استطاعت أن تضع بصمتها كأول مغربية تحصل على دكتوراه دولة في القانون من جامعة محمد الخامس عام 1997 في موضوع “نقل وزرع الأعضاء”، كما نجحت في تحقيق مساعيها والتعريف بأفكارها باعتبارها عضوا في المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ولجنة تحرير المجلة المغربية للقانون والسياسة والاقتصاد.

عملت بجهد على معالجة القضايا والانشغالات والتحديات التي تواجه المجتمع المغربي والعربي والإسلامي وطرحت عددا من الحلول. وتقديرا لمجهوداتها تصنف مكاوي ضمن زمرة العالمات الرائدات اللواتي يتحملن مسؤولياتهن في إصلاح الاختلالات الاجتماعية والدينية داخل مجتمعهن وعلى الصعيد الإسلامي والعربي، ولهذا تعتبر عنصرا حيويا في تأطير الشأن الديني، ومشاركة في الدفع بمنهج الوسطية والاعتدال.

دستور العام 2011 حسب ما ترى مكاوي كان قويا متصدّيا لنزعات التشكيك في قيم التعايش واحترام التنوع والسعي الحثيث لتحريف المرجعيات والتعصب والتطرف

تسهم مكاوي في فقه النوازل الذي يستدعي الإفادة من أهل الاختصاص، وهذا واضح من إلمامها بالقانون واطلاعها على المستجدات في تخصصات أخرى، سواء في الطب أو القانون أو الاقتصاد أو علم الاجتماع. وينصب اهتمامها بشكل كبير حول قضايا الأسرة وحقوق الأطفال المهمّشين ضمن مقاربة قانونية وطبية مع الاجتهاد القضائي والفقهي. وقد سعت بكل جهدها مع فريق طبي للضغط على الحكومة المغربية لإصدار قانون يسمح وينظم مسألة زرع الأعضاء، ومن أجل ألا يحصل القطاع الخاص على ترخيص في الزرع.

مكاوي ذات 63 عاما سيدة منظمة جدا، ولهذا تقول إنها نادرا ما تضطرب أو تجد نفسها في وضع يصعب عليها ضبطه أو تدبيره أو الخروج منه، وتأسف على الوقت الذي لا تستثمره في البحث العلمي، ولهذا فمجهوداتها الاجتهادية لم تبق ضمن حدود المغرب بل تتعداه إلى فضاءات علمية ومدنية أخرى. وقد كانت أول من أسس وحدة قانون الصحة في أفريقيا وفي العالم العربي وهي تنسجم مع تطلعاتها واهتماماتها المتنوعة، ما انعكس على مؤلفاتها “الأطفال المهمشون: قضاياهم وحقوقهم” و”نقل وزرع الأعضاء”، و”قضايا الأسرة بين عدالة التشريع ووَفْرَة التأويل” وغيرها.

سرّ تفوقها يكمن في حسن تدبيرها سواء في عملها الأكاديمي والمهني أو في طريقة تنظيمها لحياتها الأسرية، لاسيما وأنها أم لأربعة أبناء نجحت في إيصالهم إلى العمل في قطاع الطب والإدارة، فهي مستشارة قانونية متخصصة في قانون الصحة وقانون الأسرة والقانون الجنائي والخبيرة لدى المعهد العربي لإنماء المدن. تستفيد مكاوي كثيرا من خبرتها التي راكمتها بالعمل في عدد من المنظمات العربية والدولية من بينها الهيئة الدائمة المستقلة لحقوق الإنسان التابعة لمنظمة التعاون الإسلامي، ولهذا اختيرت من قبل مجلة “نيوز ويك” كإحدى أبرز الشخصيات المؤثرة في العالم العربي لسنة 2005.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: