كل هذا التضامن الشعبي مع الشعب الأوكراني لا يُخفي حقيقة أن زعماء الغرب لم يبذلوا أي جهد بنية سوية من أجل إنقاذ ذلك الشعب من الحرب وأضرارها وآثارها وتداعياتها. كانت هناك حركة مكوكية بين العواصم الغربية وموسكو غير أن تلك الحركة لم تبن على أساس الوساطة المحايدة التي يُراد منها أن يكون التفاهم بين الطرفين مقدمة للانتهاء من أسباب التوتر التي كانت في حالة تصاعد.
لم يكشف أحد عمّا كان يجري بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وزواره. لذلك اكتفى المتابعون بالحديث عن الطاولة الغرائبية التي قيل إنها استعملت كإجراء صحي وقائي، ولكن دلالاتها السياسية كانت أكبر بكثير من ذلك. كان بوتين واضحا باسترخاء في شروطه فيما كانت المطالب الغربية غامضة بطريقة توحي بمحاولة إبقاء الأمور على ما هي عليه بحيث يستمر الرئيس الأوكراني في تخطيه لحدود ما هو مسموح له استنادا إلى احتياجات الأمن القومي الروسي.
قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف تعليقا على لقائه بوزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس “كان حوار طرشان”. لم يكن حوار الرئيس بوتين مع زواره أفضل من ذلك. كان بوتين يعرف أن زواره لا يحملون أي عرض صادق يكون جوابا على أسئلة روسيا التي تتعلق بأمنها. حتى هذه اللحظة لا يملك الزعماء الغربيون جوابا. كانوا يعرفون أن الحرب ستقع لأنه جرى الاستخفاف بكل ما طرحته روسيا علنا حين كانت تتحدث عن حقوقها. كانت الحرب ستقع لأن أحدا لم يكن يرغب في فتح ملف أوكرانيا برغبة التعامل مع روسيا باعتبارها دولة كبرى. لقد اتفق الجميع على تصغير الاتحاد الروسي واعتباره دولة عاجزة. تقول ما لا تفعله.
لقد ركز الإعلام الغربي ضوءه على الرئيس الروسي ولم يتعاط بجدية مع شروط الأمن القومي الروسي الذي صارت أوكرانيا تخترقه وتشكل تهديدا له. “القيصر الجديد” لم تكن صفة ألصقت بطريقة مجانية ببوتين. وراء تلك الصفة الكثير من المعاني ليس من بينها الدفاع عن حقوق روسيا والحفاظ على سيادتها وأمنها. قيل إن بوتين يسعى لاستعادة الاتحاد السوفييتي بطريقة جديدة. كل الحديث عن بوتين المصاب بجنون العظمة القيصرية وليس عن روسيا التي صارت تُضرب من خاصرتها. بوتين هو السبب كما كان صدام حسين يوم احتلال الكويت.
هناك ضحك يمارسه الغرب على الآخرين حاول أن يمرر من خلاله استخفافه بروسيا على بوتين الذي لا أعتقد أنه دخل إلى أوكرانيا في حالة نزق أو غضب مرتجل. فالرجل يعرف أن الغرب الذي ضحى بأوكرانيا لا يملك سوى أن يفرض عقوبات اقتصادية جديدة على روسيا. بالتأكيد أن روسيا مستعدة لتلك العقوبات. هي ليست العراق الذي قتل الحصار الاقتصادي أكثر من نصف مليون من سكانه.
كل زوار الكرملين لم يدركوا أنهم يجلسون في حضرة رئيس دولة كبرى بالرغم من أن الطاولة الطويلة كانت قد صدمتهم. لو أنهم عادوا إليه مرة ثانية لكانوا قد تصرفوا بطريقة مختلفة ولأدركوا أن روسيا ليست بوتين الذي لن يتصرف بطريقة نزقة وستكون حربه مدروسة بكل نتائجها الإيجابية والسلبية. كان على الغرب أن يدرك قبل الذهاب إلى بوتين والحوار معه أنه يعرف أن كل ما سيُقال له لا يمكن أن يشكل قاعدة حل لمشكلته مع أوكرانيا وأن النظر إلى روسيا بخفة سيزيد من أسباب الحرب التي لا يمكن تفاديها. ما فهمه بوتين من خلال حواراته مع الجانب الغربي أن ليس هناك حل للمشكلة ما دام النظام السياسي في أوكرانيا قائما وهو نظام يتبع الغرب غير أن الغرب لن يكون مستعدا لإنقاذه إذا ما غرق. وهو ما حدث فعلا. هناك خوف عالمي من أن تأكل النار نصف أوروبا. لذلك لن يتدخل أحد في حرب أوكرانيا. كما أن الصراع مع دولة نووية ليس كالصراع مع دولة اتهمت كذبا بامتلاك أسلحة الدمار الشامل. ستكون النتائج مختلفة بالتأكيد.
أعتقد أن المتظاهرين في الغرب تضامنا مع الشعب الأوكراني لا بد أن يكتشفوا أن حكوماتهم قد كذبت عليهم وأنها لم تكن جادة في وضع حل للمشكلة التي لم يصنعها الرئيس الأوكراني وحده، بل ساهم الغرب في صناعتها، ليس من خلال تشجيعه على المضي بمغامرته حسب، بل وأيضا من خلال الإيحاء بأنه سينقذ أوكرانيا في اللحظة المناسبة. لقد تركها لتظاهرات المتضامنين.