أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، اليوم الأحد، وزارة الدفاع بوضع قوات الردع الاستراتيجي الروسية في حالة تأهب قتالي خاصة. وجاءت أوامر الرئيس الروسي خلال اجتماعه مع وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس الأركان العامة فاليري غيراسيموف. وشدد بوتين على أن هذه الخطوة تأتي ردا على مسؤولي الغرب الذين “لم يكتفوا باتخاذ خطوات عدائية اقتصادية وحسب… بل أدلى مسؤولوهم في حلف الناتو بتصريحات عدوانية ضد روسيا”. يذكر أن القوات الروسية تواصل لليوم الرابع عمليتها الخاصة لحماية دونباس ونزع سلاح أوكرانيا وسط تصعيد غير مسبوق للعقوبات الغربية ضد روسيا، مع التركيز على قطاعها المالي.
عميرة
بعد نهاية حقبة الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفياتي الذي كان بمثابة القوة الجيواستراتيجية التي كبحت جماح القوة المتعاظمة للولايات المتحدة الأمريكية، ومنعتها من السيطرة المنفردة على النظام الدولي والذي تسيدته فيما بعد ولمدة 30سنة، ولكن بمجرد عودة روسيا إلى واجهة الأحداث السّياسية مجدداً، كوريثة لتركة الاتحاد السوفياتي السابقة، أحسّت الولايات المتحدة الأمريكية بمدى جدية هذا التهديد الجيوسياسي الذي خلقته الدولة الروسية، التي استشعرت الخطر الغربي الذي بات يهددها ويضيق الخناق عليها تدريجياً عن طريق حلف الناتو، وخاصة بعد الثورة الأوكرانية التي عرفت باسم الثورة البرتقالية، والتي جاءت في إطار ما يسمى ” بالثورات الملونة”، التي شهدتها أوكرانيا في الفترة من أواخر نوفمبر 2004م، وحتى شهر جانفي 2005م، حيث عرفت البلاد سلسلة من الاحتجاجات أعقبت جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية، على خلفية ما تردد عن استعمال التزوير ووجود فساد وترهيب للناخبين وسوء الأوضاع الاقتصادية، ودعمتها أمريكا على غرار ” الثورة الوردية” في جورجيا، وحققت ما كان مطلوباً منها، إذ خسر الرئيس الموالي لروسيا فيكتور يونيو كوفيتش، وأنصاره في جولة الإعادة، لصالح الرئيس فيكتور يوشينكو لتخسر روسيا جولة شد حبال جديدة مع المنظومة الغربية في 2004م. كما ذكر موقع الجزيرة، بتاريخ 2جوان 2015م، في مقال بعنوان (الثورة البرتقالية).
وهو ما جعل الكرملين يستشعر بداية الخطر الحقيقي الذي جعل روسيا بقيادة بوتين، هدفاً رئيسياً لأمريكا، التي حاولت في عهد الرئيس بيل كلينتون ضمّ روسيا لحلف الناتو، واستعمال موقعها الاستراتيجي بالتالي في محاصرة الصين، التي تشير كل الدراسات الأمريكية والغربية بأنها ستسيطر على العالم، وتصبح أقوى دولة في العالم بحلول سنة 2049م، على أقصى تقدير وتزيح أمريكا من الصدارة العالمية، التي تتربع عليها وبشكل منفرد منذ التسعينيات من القرن المنصرم، والتي تحاول بكل الطرق فرض شروطها واملاءاتها على كل الدول الكبرى، وخاصة الآسيوية منها، وهو ما ترفضه موسكو وبكين وبشدة.
فالولايات المتحدة الأمريكية وفي إطار النظرية الواقعية الجديدة، تحاول كما قال المفكر الأمريكي الكبير ، والذي يعتبر أحد أهم منظري السياسة الأمريكية جون مارشرماير، فرض سيطرتها على إقليمها ومنع الآخرين من السيطرة على إقليمهم، الذي يشكل حيز نفوذهم الاستراتيجي ، لأن الدولة التي تستطيع السيطرة وفرض نفوذها وبسط سيطرتها على محيطها الإقليمي، ستكون لاعباً رئيسياً في السياسة الدولية، ومنافساً شرساً لبلاد العم سام في المستقبل، وفي جميع المجالات، ووفق هذا المنطق عملت الولايات المتحدة الأمريكية على ضم 6 دول من الدول المشكلة للاتحاد السوفياتي سابقاً لحلف الناتو، بما فيها تلك التي كانت ضمن حلف وارسو، وبازدياد عدد الدول المنظمة إليه وتوسعه شرقاً، وتزايد عدد القواعد العسكرية للحلف في دول أوروبا الشرقية، قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالاستفسار وطوال سنوات عن السبب الحقيقي لهاته الحشود العسكرية الموجودة في تلك الدول، ولكن كان الرد الغربي باهتاً، بل يصل لحد السخرية والاستهزاء، وأدرك بوتين من خلال تلك الردود الباردة بأن الهدف الرئيسي هو الاستعداد لغزو بلاده، تمهيداً لتحييدها في أيّ جولة صراع مستقبلية للغرب مع الصين، بعدما لاحظ بأن الدول الغربية تقدم معدات عسكرية متطورة، ومساعدات اقتصادية ومادية هامة للكثير من الدول الاشتراكية في وسط وشرق أوروبا، لدفعها للانضمام لحلف الناتو، مثل سلوفاكيا وسلوفينيا ورومانيا وجمهورية الجيل الأسود التي انضمت للناتو في سنة 2017م، ومقدونيا الشمالية التي أصبحت ضمن منظومة الناتو في 2020م، بالإضافة لإدراج ثلاث دول وهي البوسنة والهرسك وجورجيا وأوكرانيا تحت فئة الدول الطامحة للانضمام. كما ذكر موقع DW الألماني، بتاريخ 13فيفري 2020م، في مقتل بعنوان (حلف الناتو، لماذا تم تأسيسه وكيف توسع في شرق أوروبا؟)
ورداُ على توسع الناتو للحدود الشرقية لروسيا، وبعد فشل جميع الجهود الدبلوماسية قام بوتين بغزو أوكرانيا، وقبل ذلك اعترف رسمياً بمنطقتي لوهانسك و دونيتسك الانفصاليتين في إقليم الدونباس، الواقع بشرق أوكرانيا بعد أن أطلق زعيمي المنطقتين المنفصلتين بالتنسيق بينهما نداء للرئيس بوتين بثه التلفزيون الروسي، وهما على التوالي دينيس بوشيلين زعيم جمهورية دونيتسك الشعبية، وليونيد باشينيك زعيم جمهورية لوهانسك الشعبية، طالبا من خلاله بمساعدتهما على الانفصال والاعتراف الرسمي بجمهوريتيهما، هو المطلب الذي وافق عليه الرئيس بوتين، وكل قيادات الكرملين بما فيهم رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين الذي أيد الاعتراف باستقلال كل إقليم دونباس عن أوكرانيا، موضحاً بأن موسكو مستعدة اقتصادياً لمواجهة أي تصعيد محتمل. كما ذكر موقع الجزيرة، بتاريخ 21فيفري 2020م، في مقال بعنوان ( بوتين يعلن اعتراف روسيا بلوهانسك ودونيتسك جمهوريتين مستقلتين عن أوكرانيا).
ودخلت القوات الروسية بموجب الاتفاقيات الموقعة مع الجمهوريتين السالفة الذكر، إلى إقليم دونباس و شنت هجوماً عنيفاً على قوات حرس الحدود، والقوات الأوكرانية المتواجدة هناك، وتوسعت العمليات العسكرية لتشمل مختلف الأراضي الأوكرانية، حيث استهدفت الطائرات الروسية المتطورة من نوع سوخوي_ 35 و ميغ _25 وغيرها المطارات العسكرية وأنظمة التحكم والسيطرة والقواعد الجوية العسكرية الأوكرانية، التي أصيبت بالشغل التام، خاصة وأن أوكرانيا لا تستطيع قصف تلك القوات الجوية أو البرية التي شاركت في عملية الغزو عن طريق البحر بما فيها تلك القوات التي دخلت عبر جزيرة القرم، لأنها فقدت أسطولها البحري بالكامل بما فيها السفن القتالية الكبيرة التي استولت عليها القوات الروسية سنة 2014م، بعدما سيطرت على ميناء سيباستوبل بالقرم.
وهذا ما كانت تريده الولايات المتحدة الأمريكية التي قامت بفرض عقوبات اقتصادية كبيرة على روسيا، وهي العقوبات التي تحدث عنها جوزيف بايدن في خطابه الذي ألقاه وشجب من خلاله عملية الغزو الروسي لأوكرانيا، مع تأكيده على عدم الدخول في مواجهة مباشرة مع روسيا، ولكن التزم بحماية دول منظومة حلف شمال الأطلسي التي تمتلك أكتر من 40الف جندي وأكثر من 100سفينة حربية و 120مقاتل حربية في دول أوروبا الشرقية، وتعهد بتفعيل المادة 5 من ميثاق الحلف والتي تنص على أن أي استهداف لأية دولة من دوله يعد عدواناً على كل الدول المنضوية تحت لواءه، وهو ما يستوجب الرد الفوري على تلك التهديدات التي تستهدفها، وأن اقتضى الأمر الدخول في حرب شاملة مع روسيا، التي تعلم جيداً بأن أمريكا ستعمل جاهدة للضغط عليها بكافة الوسائل الممكنة، لتحوّل أوكرانيا لأفغانستان جديدة بالنسبة للجيش الروسي، فأمريكا في تلك الفترة قد زودت المقاتلين الأفغان بأحدث أنواع الأسلحة الأمريكية، بما فيها صواريخ ستينغر وسام 7 المحمولة على الكتف، والتي كانت أسقطت مئات المروحيات والطائرات العسكرية السوفياتية، وأجبرت السوفيات على الخروج من مقبرة الغزاة تلك وبهزيمة مذلة عجلت بانهيار الاتحاد السوفياتي، ودخلت روسيا بعدها في مرحلة من الضعف والتقهقر دامت لربع قرن تقريباً.
فأمريكا إلى جانب حزمة العقوبات الاقتصادية التي فرضها على موسكو، كمنعها من التعامل بنظام سويفت المالي، بالإضافة لفرض عقوبات مست كبار رجال الأعمال وعدد من البنوك الروسية، ومسؤولين في الدولة وتجميد أرصدتهم البنكية الموجودة في البنوك الأمريكية، والتي تقدر بمئات المليارات من الدولارات، تكون قد أدخلت موسكو في حرب غير مباشرة مع أوروبا بعدوانها كما تدعي واشنطن على أوكرانيا، وهذا ما أكده امين عام حلف الناتو ينس ستولنبرغ عندما قال: في مؤتمره الصحفي الأخير بأن عدوان أوكرانيا على روسيا يعتبر اعتداء على كل أوروبا، التي باتت ترى في موسكو تهديداً جدياً للأمن القومي لدولها، وفي رئيسها بوتين الذي تتهمه بأنه الشخص المسؤول عن إعادة شبح الحرب إلى القارة الأوروبية بعدما غاب عنها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، الرئيس العدواني الذي يريد احتلال عدة دول فيها غير أوكرانيا، بالإضافة إلى ذلك فإن واشنطن نجحت من خلال هاته الحرب في زيادة الهوة بين روسيا وأوروبا، وعززت من مكاسبها الاقتصادية باعتبار أن الارتفاع الحالي في أسعار المواد الطاقية كالبترول والغاز يصب في مصلحتها في نهاية المطاف، وقد تلجأ إلى ممارسة ضغوط كبيرة على الدول المنتجة للغاز كالجزائر وقطر، من أجل المساهمة في خط الغاز الرابط بين اسبانيا وألمانيا مروراً بفرنسا، والذي تطمح برلين في أن يكون بديلاً عن خط نور ستريم 2، وفي حال رفضت هذه الدول ما طلبته منها الولايات المتحدة الأمريكية، فإنها قد تعمل على إسقاط أنظمتها والاتيان بالتيار الاسلامي للحكم، وتحريض الاسلاميين ضدّ روسيا، التي تفرض سيطرتها على عدة جمهوريات إسلامية في إطار الاتحاد الفيدرالي الروسي من بينها جمهورية الشيشان، وتستعين واشنطن لتنفيذ هذا المخطط بالنظام السعودي حليفها التقليدي في منطقة الشرق الأوسط، والذي لعب الدور الأكبر في تجنيد الشباب للقتال في أفغانستان في السبعينيات من القرن الماضي.
وقد تدعم أمريكا القوميين في أوكرانيا وتقوم بتجنيد ميليشيات من المرتزقة ومن مختلف الجنسيات، وتمدهم بأحدث أنواع الأسلحة لشنّ حرب استنزاف طويلة تؤدي إلى إجبار الجيش الروسي على مغادرة الأراضي الأوكرانية، وبالتالي ستهتز صورة الدولة الروسية بقيادة بوتين، وهي التي أصبحت بمثابة الكابوس الذي يخيف المحور الغربي الأمريكي، خاصة وأن روسيا تمتلك أسلحة هجومية متطورة جداً، لا تمتلكها حتى الولايات المتحدة الأمريكية، ومن بينها صاروخ سارمات، الذي يعرف بصاروخ الشيطان، والقادر على حمل 10رؤوس نووية دفعة واحدة، والوصول لأية نقطة جغرافية، ودون أن تكتشفه أجهزة الرادار، فأمريكا يجب عليها تدمير القدرات العسكرية والاقتصادية الروسية، أن أرادت السيطرة على كامل أوروبا وجعلها مجرد منفذ لسياستنا الخارجية كما كانت منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.