هل يمكن أن تكون تندوف حديقة خلفية سرية لمدريد؟ أكثر من لغز يلف علاقة إسبانيا بالتنظيم المسلح، الذي ظهر في السبعينيات لمحاربة الوجود الإيبيري في ما عرف حينها بـ»الصحراء الإسبانية» قبل أن يحيد عن خط سيره، ويجعل المغرب عدوه البديل بعد جلاء الإسبان من تلك الأراضي. ومع إنهم لم يعترفوا رسميا بالبوليساريو، إلا أن الإسبان وفروا له قاعدة إمداد لوجستي وإعلامي متقدمة في أوروبا، وأغدقوا عليه وبسخاء شديد ملايين الدولارات. لكن ذلك قد لا يبدو سوى الجزء الظاهر فقط من علاقة ملتبسة جدا بين الطرفين، يكتنفها الغموض الشديد، وقد يكون ارتباط إسبانيا بأوروبا هو ما زاد من تعقيداتها وحساباتها.
والمثال الأخير، ما حصل الأسبوع الماضي في بروكسل، فقبل أن يصل الرجل الأول في الجبهة إلى بلجيكا ليشارك الخميس والجمعة الماضيين في أشغال القمة الأوروبية الافريقية، خرج المتحدث باسم الشؤون الخارجية والسياسة الأمنية للاتحاد الأوروبي بيتر ستانو بتصريح قال فيه، إن الدعوة الموجهة للبوليساريو لحضور تلك القمة «نظمها الاتحاد الافريقي المسؤول عن دعوة الأعضاء من الجانب الافريقي» وأنه لا «وجود لتغيير في موقف الاتحاد الأوروبي بشأن الصحراء المغربية، فموقفنا لم يتغير كما لم تعترف أي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي بتلك الجمهورية». وكان توضيحه محملا، وبلا شك، بكثير من الدلالات فهو قد حدّ من فورة الاحتفال المبكر للبوليساريو، بما اعتبرته نصرا دبلوماسيا لها، وامتص جانبا كبيرا مما لاح من بوادر غضب مغربي، ما قد تعتبره الرباط نوعا من الإقرار الأوروبي غير المقبول، بما تراه مجرد أداة بيد النظام الجزائري.
وربما دفعت الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي بقوة نحو أن يأخذ الأوروبيون مسافة من حضور البوليساريو في بروكسل، حتى لا تتكرر وبصيغة أخرى فصول الاشتباك الذي تسبب به القدوم السري لزعيم الجبهة إلى مدريد، قبل نحو عام من الآن. ولا شك في أن تلك الحادثة بالذات، ألقت ظلالا كثيفة حتى اليوم على علاقة مدريد بالرباط، وأحدثت شرخا واسعا في الصف الأوروبي نفسه. وحين سئل إبراهيم غالي الجمعة الماضي في قناة «أنتينا 3» الإيبيرية على هامش حضوره القمة الأوروبية الافريقية، عما إذا كان يعرف من سمح له بدخول إسبانيا في ذلك الوقت، أنكر تماما وقال، إنه لا يعرف وإن حالته الصحية منعته تماما من أن يدرك ذلك، مضيفا أنه دخل التراب الإسباني، من دون أن يعرف مكان وجوده. ولما حاول محاوره أن يدقق أكثر في الموضوع، ويستفسره عما إذا كان رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز، أو وزير داخليته كانا على علم بدخوله البلاد، كان رد إبراهيم غالي هو أن «صحتي كانت سيئة… لو علمت كنت سأقول ذلك ولكنني لا أعرف». لكن ما عرفه زعيم البوليساريو بالمقابل أو عرف الجواب عنه هو، التعبير عن أسفه لأن وزيرة الخارجية الإسبانية السابقة دفعت ثمن ما وصفها باللفتة الإنسانية، وتعليقه على العاصفة التي سببها قدومه بهوية مزورة، وبشكل سري إلى إسبانيا بأنه «ما كان يجب على الإسبان» أن يخضعوا على حد تعبيره إلى ذلك الحد للمغرب، فهذا كثير جدا مثلما قال. كما أنه لم يغفل عن التأكيد على أن العلاقة بين تنظيمه المسلح، والحكومة الإسبانية توجد الآن في منطقة وسطى بين منطقتين فهي «لا باردة جدا ولا دافئة جدا» مثلما فضل توصيفها. لكن ما الغرض من ذلك؟ ولماذا سألت القناة التلفزيونية، ثم وكالة الأنباء الإسبانية أيضا ذلك السؤال بالذات لغالي، أي إن كان يعلم أم لا بمن سهّل، أو أمر بدخوله التراب الإسباني بالشكل الذي حصل فيه؟ وما الذي جعله ينكر أي معرفة بالأمر؟ لا شك في أن هناك ترتيبا اقتضى أن يطرح الصحافيون الإسبان استفسارهم على ذلك النحو، ليسمعوا بعدها الجواب بتلك الصيغة. فربما أرادت أجهزة الدولة الإسبانية أن تحصل في هذا الوقت على نوع من التطهير الإعلامي المتأخر نسبيا، من أوزار عملية تسبب سوء تقدير عواقبها في ضرب علاقتها بالمغرب، وكادت تجر أوروبا إلى الاصطدام العنيف مع من تعتبره شريكا استراتيجيا مهما في الشمال الافريقي. ففي الأخير لا أحد سيصدق أن زعيم البوليساريو لم يكن يعرف، أو أنه لم يبلّغ لاحقا في أدنى الأحوال بمن أعطى الأوامر بدخوله إلى إسبانيا، ولن يصدق أحد أيضا، أن ذلك الأمر جرى من دون علم ومعرفة وموافقة رئيس الحكومة ووزير الداخلية. غير أن الطريقة التي رد بها إبراهيم غالي تفتح الباب واسعا أمام سؤال مربك وهو ما الذي تخفيه بالضبط علاقة مدريد بالبوليساريو؟ ولماذا يفضل الإسبان أن يبقى الجزء الأكبر منها في الظل؟
والجواب البديهي الذي قد يقوله البعض هو أنهم يفعلون ذلك لأنهم يراعون الحساسية التي تتطلبها علاقاتهم مع المغرب، ويرغبون كذلك في الحفاظ على كل الأوراق، ومسك المفاتيح كافة بأيديهم في كل ما يخص الملف الصحراوي الشائك، الذي لم تكن لهم النية أبدا في حله منذ السنوات الأولى التي قرروا فيها مغادرة الصحراء. بيد أن محاولتهم الرقص على أكثر من رجل واحدة، قد لا تحظى دائما وفي كل الحالات بإعجاب، أو بتقبل الأطراف لها، فالرباط التي قد تكون اعتبرت ذلك في وقت ما، على أنه مظهر من مظاهر الحياد المقبول في المسألة الصحراوية لم تعد تعتبره الآن كذلك. وما قاله العاهل المغربي في خطابه في الذكرى السادسة والأربعين للمسيرة الخضراء، من أن «المغرب لن يقوم مع أصحاب المواقف الغامضة والمزدوجة، بأي خطوة اقتصادية أو تجارية لا تشمل الصحراء» لن يحتاج لشرح أو تأويل. فالمصالح الإسبانية مع المغرب صارت الآن على المحك. لقد غير حدثان مهمان حصلا في ظرف زمني متقارب كل المعادلات القديمة، إذ أن التدخل المغربي خريف العام قبل الماضي في الكركرات، ثم الاعتراف الأمريكي أواخر ذلك العام بمغربية الصحراء، جعل الإسبان يبدون بعدها وكأنهم بصدد ملاحقة الأحداث والسير خلفها، بعد أن كانوا يعتبرون أنفسهم أنهم صناعها الأساسيون وربما الوحيدون. وكان واضحا من خلال ما حصل ربيع العام الماضي بعد استقبالهم لزعيم البوليساريو بهوية مزورة، وبشكل سري تحت مبرر إنساني حجم الرجة والإرباك الكبيرين اللذين سببته لهم تداعيات الحدثين المذكورين، وظهرا بوضوح على مجريات ذلك الملف. لقد كانت تلك المرة الأولى منذ ظهور البوليساريو، التي وضعوا فيها في الزاوية ووجدوا أنفسهم في مأزق حقيقي، يتمثل لا فقط في ضرورة الحسم بين الإبقاء على علاقاتهم بالتنظيم، والحفاظ على روابطهم ومصالحهم مع المغرب، بل في الكشف أيضا عن الجانب الخفي من علاقاتهم بتندوف. وما قاله خورخي ديسكار مدير المخابرات الإسبانية السابق، الأحد قبل الماضي، من أن «إسبانيا لن تعترف بمغربية الصحراء مثلما أن العالم لن يعترف بضم روسيا لأوكرانيا» يزيد السؤال حول ما إذا كانت تندوف هي بالفعل الحديقة الخلفية السرية لمدريد، حدة. ووحدها الأيام ستجيب.