مرت الثلاثاء الذكرى الثالثة للحراك الشعبي في الجزائر وسط أجواء من الخيبة والاستفهامات العميقة حول راهن ومستقبل البلاد في ظل حالة الشلل والجمود والقلق التي تخيم على البلاد بعد نجاح السلطة في الالتفاف عليه وإحكام قبضة حديدية على الشارع، لكن أنصاره يرون أن الحراك هو فكرة، والقمع والتضييق هما سمادها الذي ينمّيها ويغذيها مجددا.
وخيمت مشاعر متضاربة تجمع بين الخيبة والأمل بمناسبة الذكرى الثالثة للحراك الشعبي المصادفة للثاني والعشرين من فبراير، وبين متجرع للانتكاسة ومتشبث بالأمل مرت الذكرى بصمت رسمي وشعبي، وباستثناء الاحتكاكات والاعتقالات المعزولة التي سجلت في بعض المدن الجزائرية كمستغانم وبجاية والعاصمة، لا شيء أوحى أن البلاد تستعيد ذكرى انتفاضة شعبية عُلقت عليها آمال كبيرة لتحقيق التغيير والنهضة المأمولة.
ورغم أن الحراك المذكور تمّت دسترته في الطبعة الأخيرة الصادرة منذ عامين من الوثيقة التشريعية الأولى في البلاد، وأضيف له وصف “المبارك” في الديباجة، وقرن باليوم الوطني للتلاحم بين الشعب وجيشه، إلا أنه لم تسجل أي وقفة رسمية للذكرى، وحتى أجندة الرئيس عبدالمجيد تبون تضمنت نشاطا خارجيا في عواصم خليجية، بينما لم يصدر أي شيء عن قيادة الجيش.
آمنة القلالي: لا يوجد أي مبرّر لملاحقة النشطاء السياسيين قضائيا
ويبدو أن السلطة، التي كانت تعتبر أن الحراك أنقذ الدولة من الانهيار، تريد إدارة ظهرها له حتى وهو مدون في سجلاتها الرسمية من خلال هذا التجاهل المثير، فلا رئاسة الجمهورية ولا قيادة الأركان التفتتا للذكرى، وهما اللتان كانتا منذ عام فقط تفردان نشاطات فلكلورية واستعراضية ومن خلفهما أذرعهما الإعلامية التي تجاهلت بدورها الانتفاضة السلمية التي أسقطت أعتى سلطة قادت البلاد على مدار عقدين من الزمن.
لكن في المقابل كانت بوادر القبضة الأمنية جلية في شوارع وساحات العاصمة ومدن البلاد الكبرى من خلال التعزيزات الأمنية المسجلة على غير العادة من أجل إجهاض أي احتجاجات أو مظاهرات شعبية، وهو ما أفضى إلى تطويق محاولات معزولة في عدد من المدن، وتم توقيف عدد من الناشطين والشبان على غرار دليلة توات التي لم يطلق سراحها من السجن إلا مؤخرا في مدينة مستغانم بغرب البلاد.
وحتى شبكات التواصل الاجتماعي التي كانت تمثل الفضاء المفضل للنشطاء المعارضين باتت خالية من أصحابها خوفا من الملاحقات الأمنية التي زجت بالعشرات منهم في السجون بتهم المناشير المهددة للأمن والسلم.
لكن هؤلاء يجزمون بأن “الحراك فكرة، والفكرة لا تموت، والقمع والتضييق هما السماد الذي يغذيها وينميها”، حسب شعار رفعه أحد الناشطين على صفحته الرسمية على فيسبوك، قبل أن تتعرض تلك الصفحة للتبليغ والحظر، أو يتم اعتقاله، كما حدث مع الناشط زكي حناش الذي كان يعمل على نقل أخبار ومعلومات الحراكيين بين التوقيف والاعتقال والأحكام القضائية، وهو ما حوّل صفحته إلى مرجع حقيقي يستعين به المحامون والحقوقيون ورجال الإعلام.
ونجحت السلطة في إحكام قبضتها على الشارع وتطبيق مقاربة أمنية دقيقة في معالجة الأزمة السياسية والاجتماعية، وتحولت السلطات الأمنية والقضائية إلى أدوات لإنهاء الحراك كظاهرة وحالة سياسية، لكنها فشلت في تغيير مشاعر أصحابه الرافضين للسلطة.
وبين انتكاسة حلم التغيير والتواري عن الأنظار للإفلات من ملاحقات الأمن، اختار البعض الهروب من الجحيم المضاعف على قوارب “الحرقة” (الهجرة غير النظامية).
ورغم أن الإحصائيات تتحدث عن تراجع كبير لأرقام “الحراقة” خلال الأشهر الأولى للحراك الشعبي لتنامي الأمل لدى الشباب في التغيير ومرور البلاد إلى مرحلة جديدة، إلا أن الخيبة كانت كبيرة بعد التفاف السلطة على الحلم، لتعود بذلك قوافل “الحرقة” بشكل رهيب نحو السواحل الإسبانية، ولم يعد الأمر يقتصر على الشباب العاطلين عن العمل، بل تعداه إلى ناشطين سياسيين وعائلات ومسنين وحتى رجال مال وفنانين.
وتتداول أخبار في مدينة وهران عن هجرة فنانة “الراي” المعروفة بـ”الشابة خيرة” على متن قارب للهجرة السرية رفقة أبنائها إلى إسبانيا، وكان قد سبقها الناشط إبراهيم دواجي، وبعده فشل إبراهيم لعلامي في الوصول إلى هناك وغيرهما من الوجوه البارزة في المجتمع.
وبات من الصعب التواصل أو أخذ رأي أو تصريح من ناشط سياسي معارض بسبب القبضة الأمنية، فلا كريم طابو، ولا فضيل بومالة، ولا رشيد نكاز، ولا مصطفى بوشاشي، فالجميع تحت الرقابة القضائية وأي سلوك منهم خارج السياق سيكلفهم العودة إلى السجن، وباستثناء بعض المحامين المنضوين تحت لواء تنسيقية الدفاع عن سجناء الرأي، فإنه لم يعد للحراك الشعبي صوت بعدما كان لا صوت يعلو فوق صوته.
السلطة نجحت في إحكام قبضتها على الشارع وتطبيق مقاربة أمنية دقيقة وتحولت الأجهزة الأمنية والقضائية إلى أدوات لإنهاء الحراك كظاهرة وحالة سياسية
ولولا التدوينات التي نشرها أمثال المحامي والحقوقي عبدالغني بادي على حسابه الرسمي، لما علم الرأي العام بأن العشرات من الناشطين المسجونين في عدد من المؤسسات العقابية قد دخلوا في إضراب جوع جماعي دخل في أسبوعه الثالث احتجاجا على التعسف في السجن المؤقت وفي تكييف التهم إلى جنايات تهددهم بأحكام ثقيلة.
ورغم نجاح السلطة في فرض أجندتها ومخارجها للأزمة السياسية والالتفاف على مطالب الحراك الشعبي، فإن متاعبها تتفاقم يوميا مع المنظمات والهيئات الحقوقية الدولية، حيث صارت التقارير تنزل تباعا حول تدهور الوضع السياسي والحقوقي في الجزائر، لاسيما في ما يتعلق بالإدارة الأمنية لشؤون البلاد، والإفراط في ملاحقة وسجن المعارضين.
وقالت نائبة مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية آمنة القلالي إن “السلطات الجزائرية لا تزال عازمة على التشبث بالسلطة بسحق معارضيها من خلال الدوس على حقوقهم في حرية التجمع وتكوين الجمعيات أو الانضمام إليها، وحرية التعبير، ولا يوجد أي مبرر على الإطلاق لملاحقة النشطاء السياسيين قضائيا ومنع الأحزاب السياسية المُعارضة من النشاط”.
ورغم مساعيها لإسكات الأصوات الناشطة في الخارج بمختلف الطرق، إلا أنها لم توفق في إطفاء جذوة الحراك التي تجددت في ذكراه الثالثة من خلال مظاهرات واحتجاجات في عدد من المدن والعواصم الأوروبية، كانت آخرها المسيرة الضخمة التي عاشتها باريس الأحد الماضي.