العالم يتخلص من الكمامة وسط التساؤل العريض: كورونا فيروس طبيعي أم حرب بيولوجية صامتة؟
مجدوبي
في مثل هذا الأسبوع، ستكون مرت سنتان على بدء الوعي بخطورة الفيروس الذي انتشر في الصين نهاية 2019، وبدء حالة الاستثناء العالمي. وإذا كانت الجائحة التي ترتبت عنه بدأت تخف وقد تنتهي في ظرف شهور قليلة بعد ما بدأ العالم يتخلى عن الإجراءات الاحترازية، يستمر جزء من الخبراء بل وحتى الاستخبارات الغربية في التساؤل: هل كنا أمام أول حرب بيولوجية صامتة وغير معلنة نفذتها الصين كدولة أو تيارات في الصين لإحداث تغيير في الخريطة الجيوسياسية في العالم، أم أمام جائحة طبيعية شأنها شأن التي سبقتها وعانت منها البشرية؟
وبدء نهاية الجائحة مع المتحور الأخير للفيروس أوميكرون، الذي نقل خطورة الفيروس من قاتل إلى ما يشبه مرض الزكام الحاد عكس متحور دلتا القاتل، يعني نهاية ما يشبه فيلما من الخيال العلمي عاشته البشرية، وكشف مدى هشاشتها أمام ما تخفيه الطبيعة رغم ما بلغه العلم من تقدم. كرونولوجيا، ظهر الفيروس في الصين خلال كانون الأول/ديسمبر 2019 وانتقل خلال أسابيع قليلة إلى باقي العالم لتصبح الكرة الأرضية شبه مغلقة مع منتصف آذار/مارس 2020، ويدخل العالم في مرحلة شبيهة نسبيا بما حدث في الأنفلونزا الإسبانية ما بين سنتي 1918-1920.
من الطاعون إلى كورونا
شهد العالم أكثر من جائحة خلال القرون الماضية أبرزها الطاعون الذي خلال منتصف القرن الرابع عشر من كثرة الضحايا حمل اسم «الموت الأسود» ثم عاد الطاعون مجددا خلال القرون اللاحقة، لكن الموت عاد بقوة مع الأنفلونزا الإسبانية الناتجة عن فيروس يصيب جهاز التنفس. وأصابت الأنفلونزا الإسبانية قرابة ربع البشرية سنة 1919، أي 400 مليون وخلفت مقتل أكثر من 50 مليونا في حين تفيد دراسات صدرت خلال السنوات الأخيرة عن قرابة 80 مليون ضحية.
من باب المقارنة، تبقى هذه الجائحة الأقل تأثيرا في البشرية مقارنة مع نسبة الضحايا. حيث بلغت الإصابات المسجلة رسميا حتى الجمعة من الأسبوع الجاري 420 مليونا في حين وصلت الوفيات إلى خمسة ملايين و860 ألفا مع هامش للخطأ يصل إلى 5 في المئة نحو الارتفاع. وأغلب ضحايا الجائحة جرى تسجيلهم في الدول ذات الكثافة السكانية العالية لاسيما في الولايات المتحدة بأكثر من 930 ألف وفاة متبوعة بالبرازيل بـ 642 وفاة ثم الهند بحوالي نصف مليون وفاة ثم بريطانيا بـ 160 ألف وفاة وفرنسا 133 ألف وفاة. وتبقى نسبة الوفيات قرابة ستة ملايين من سبعة مليار نسمة منخفضة للغاية مقارنة مع الطاعون الأسود في القرن الرابع عشر، حيث كان عدد سكان العالم لا يتجاوز 400 مليون وفق الإحصائيات، وحصد الطاعون وقتها أكثر من مئة مليون.
ويعود انخفاض نسبة الوفيات إلى عاملين رئيسيين، الأول وهو الإجراءات الاحترازية بالتقليل من حركة النقل البري والجوي في العالم والإغلاق التام لمحاصرة الفيروس، وهو ما سمح بنوع من التحكم في الحد من انتشاره والتخفيض من الضحايا. ويضاف إلى هذا الإجراءات الطبية مثل التعقيم وارتداء الكمامة ولاحقا اللقاح الذي نجح البحث العلمي في مجال الطب التوصل إليه في وقت وجيز نظرا لتكاتف جهود شركات ودول وجامعات، وهي سابقة في تاريخ البشرية، الأمر الذي يؤكد استعداد البشرية لمواجهة أي جائحة في المستقبل رغم خطابات التهويل بفناء البشرية وأشياء من هذا القبيل. وعمليا، لو كان العالم تأخر في الإغلاق وسمح بدينامية عادية للنقل الجوي لكانت البشرية أمام خطر حقيقي سنة 2020.
المصدر الحقيقي للفيروس؟
بعد سنتين من الجائحة، يستمر العالم منقسما بين رأيين حول المصدر الحقيقي للفيروس، هل هو نتاج الطبيعة مثل أي فيروس تسبب في جائحة سابقة أم نتاج مخطط سري؟ في هذا الصدد، توجد مواجهة بين العلم وبين الهاجس الاستخباراتي. ولم يصدر أي تقرير علمي من مؤسسة جامعية محترمة يتحدث عن وجود مؤامرة صينية وراء انتشار فيروس كورونا بل ينسبون الأصل إلى الطبيعة التي اعتادت مفاجأة الإنسان بين الحين والآخر بفيروسات قاتلة. غير أنه لا يوجد اتفاق بين العلماء حول السبب الحقيقي للفيروس هل جاء من الطبيعة بشكل عادي مثل انتقاله من الحيوان إلى الإنسان. كما طرح علماء أن الفيروس قد يكون انفلت من السيطرة في مختبر ووهان الصيني الذي كان يبحث عن لقاح ضد فيروس السيدا من خلال إجراء تغييرات جينية على الفيروس وهرب من السيطرة. وكان أول من طرح هذه الفكرة نوبل للطب الفرنسي لوك مونتييه الذي اكتشف مرض السيدا بعد ما عثر على مميزات مشتركة مثيرة بين فيروس كورونا وفيروس السيدا. وقد رحل العالم الفرنسي عن هذا العالم الأسبوع الماضي.
وهذا الغموض حول الأصل الحقيقي لفيروس كورونا هو الذي دفع بعدد من الدول إلى مطالبة الصين بالكشف عن السبب الحقيقي حول ملابسات ظهور وانتشار الفيروس، لاسيما وأن الصين كانت الأقل تضررا من الفيروس مقارنة مع جميع باقي دول العالم والأكثر استعدادا لمواجهته. والمثير أن الصين ذات الكثافة التي تتجاوز مليار و350 مليون نسمة لم تسجل سوى 107 ألف مصاب و4636 وفاة، وهو رقم يثير بالفعل الاستغراب.
وكان الرئيس الأسبق دونالد ترامب يوجه اتهامات قوية إلى بكين بأنها عملت على نشر الفيروس واستعدت لمواجهته حتى يتسنى لها تقليص الحيز الزمني لتحقيق ريادة العالم خلال سنوات على حساب الولايات المتحدة بدل الانتظار الطويل. ولاقت هذه النظرية في البدء نوعا من الرفض نظرا للطابع الشعبوي للرئيس ترامب وهوسه بالحد من النفوذ الصيني، غير أن الأمر تغير بعدما انضمت عدد من الدول وخاصة الغربية مثل فرنسا وبريطانيا وكندا وهولندا وألمانيا وحشدت أكثر من خمسين دولة في الأمم المتحدة تطالب الصين بضرورة الترخيص للجنة دولية لتقفي الجذور الحقيقية للفيروس. وزاد رفض الصين بالترخيص للجنة من قوة هذه النظرية التي أصبحت هي السائدة في الوقت الراهن لاسيما وأن الناس تميل إلى قبول وجود نظرية أكثر من الرأي العلمي.
ومما عزز من نظرية المؤامرة هو الاتهامات المضادة شبه الرسمية التي صدرت عن مسؤولين من الصين واتهمت الولايات المتحدة بنقل الفيروس إلى ووهان خلال الألعاب العسكرية في شهر أكتوبر 2019، أي شهرين قبل ظهوره رسميا وبدء انتشاره ثم اعتراف بعض المختبرات الأمريكية بالعمل على فيروسات منها كورونا.
التغييرات الجيوسياسية
بعد كل جائحة، تظهر تغيرات عميقة في المجتمعات على مستوى الوطن الواحد وعلى مستوى العلاقات الدولية بالمفهوم الجيوسياسي. فقد حملت معها الجائحة تغيرات على المستوى الداخلي للدول حيث عادت الدولة القطرية بمفهومها الواسع، وتجلى ذلك في دول استغلت الجائحة لتعزيز قبضتها الحديدية كما حدث في العالم العربي، وفق تقارير الأمم المتحدة وجمعيات حقوق الإنسان مثل «أمنستي أنترناشنال». في المقابل استغلت دول أخرى قطرية الجائحة وإعادت بناء اقتصادها نحو الإنتاج الداخلي ولم تعد تؤمن كثيرا بالعولمة.
غير أن التغيرات الكبرى هي التي ظهرت بين الغرب في مواجهة الصين بدعم من روسيا وعلى مستويات متعددة. ولعل أبرز مظهر هو جيوسياسة اللقاح، حيث لأول مرة لم يعد الغرب يتحكم ويسيطر على إنتاج الدواء وخاصة في الأزمات الكبرى مثل الجائحة. وبادرت روسيا والصين إلى الإعلان عن اللقاح قبل لحاق الغرب بهما وأساسا بريطانيا والولايات المتحدة. وتحول الدواء «اللقاح» إلى سلاح لاستقطاب الدول، فقد ركبت أفريقيا والعالم العربي وجزء من أمريكا اللاتينية سفينة الصين وروسيا، وحاول الغرب المنافسة في استقطاب دول أخرى لكنه لم يقدم الكثير في هذا الشأن.
وفي مظهر آخر، هو عزم الدول الكبرى على تعزيز نفوذها في وقت يخرج العالم من الجائحة منهك اقتصاديا وكأنه خرج من حرب مدمرة، تعمل على الرفع من المساعدات والقروض بدون فوائد والمساهمة في بناء البنيات التحتية. وتبقى الولايات المتحدة على الهامش في الصراع الدائر حاليا بين الصين والاتحاد الأوروبي، وهو أمر يثير الاستغراب إذا تم الأخذ بعين الاعتبار أنها القوة الاقتصادية الأولى في العالم وتراهن على المساعدات لتعزيز نفوذها.
فقد قامت بكين بإعطاء مشروعها الضخم «طريق الحرير» بعدا قويا في القارة الآسيوية والأفريقية من خلال المساعدات التي قدمتها ما بين 2020 وبداية 2022 وبلغت عشرات المليارات من الدولارات. ومن جانبه، اضطر الاتحاد الأوروبي إلى الإعلان خلال ديسمبر 2021 عن مشروع «البوابة العالمية» بميزانية تقدر بـ 150 مليار يورو موجه أساسا إلى الدول الأفريقية وأمريكا اللاتينية للحد من النفوذ الصيني. وقد عقد الاتحاد الأوروبي يومي 17 و18 شباط/فبراير الجاري قمة مع أفريقيا لهذا الغرض.
ولعل من النتائج البارزة وإن كانت لا تحظى باهتمام كبير، تراجع اقتصاديات الغرب خلال سنتين بقرابة 15 في المئة من الناتج القومي الخام، وهذا يترجم بآلاف المليارات من الدولارات كخسائر، في حين حافظت الصين على استقرارها الاقتصادي وحققت نموا يتجاوز 8 في المئة سنة 2021. وبهذا، تكون الصين قد ربحت خمس سنوات تقدما في صراعها مع الغرب اقتصاديا.
يقترب العالم من نهاية أول جائحة في عصر الإنترنت وسيتحول كورونا إلى فيروس عادي مثل الزكام الذي يحصد سنويا قرابة 800 ألف قتيل، ولكن التساؤلات ستبقى معلقة وتغذي الخيال الخصب، هل كانت الجائحة نتاج فيروس طبيعي أم أول حرب بيولوجية صامتة؟