ألمانيا والمغرب في الطريق إلى بناء علاقات استراتيجية متينة وتجاوز مخلفات التوتر الناجم عن مواقف ملتبسة لحكومة المستشارة السابقة أنجيلا ميركل بشأن مغربية الصحراء. والرباط تمتلك من الأوراق والعناصر التي تجعل من هذه الشراكة نموذجا في التعامل الأوروبي مع دول الجنوب.
تراجعت العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وألمانيا عن حدتها المشحونة التي استمرت لما يقرب السنة بعد إعلان حكومة المستشار الجديد أولاف شولتس أن المغرب حليف رئيسي، واعترافها بخطة المغرب للحكم الذاتي للصحراء باعتبارها “مساهمة مهمة” لإنهاء الصراع.
يأتي هذا في وقت يقول مراقبون في الرباط إن ألمانيا اختارت في الأخير مسار الشراكة الاستراتيجية مع المغرب على الأسلوب القديم القائم على إثارة نقاط الخلاف واستفزاز المغاربة في موضوع حيوي مثل قضية الصحراء.
وفي لقاء رسمي هو الأول من نوعه بين ألمانيا والمغرب تباحث ناصر بوريطة وزير الخارجية المغربي الأربعاء في اتصال بتقنية الفيديو مع نظيرته الألمانية أنالينا بيربوك اتفقا خلاله على إطلاق حوار جديد يهدف إلى تجاوز سوء الفهم الطارئ وتعميق العلاقات الثنائية متعددة الأوجه في جميع المجالات، بروح من التناسق والاحترام المتبادل والسياسات الناجعة.
كما اتفق الوزيران على تحديد الخطوط العريضة خلال الأسابيع المقبلة الرامية إلى تجديد وتعميق الحوار والتعاون لمواجهة التحديات المستقبلية على الصعيدين الإقليمي والدولي. ورحب الوزيران، حسب البيان، بعودة سفيرة المغرب إلى برلين، وشددا على ضرورة وصول السفير الألماني إلى المغرب قريبا.
وخلال الفترة الماضية سعى الألمان لطمأنة المغرب بتصريحات لتجاوز أسباب الخلاف بين الجانبين، والتي دفعت المغرب في مارس الماضي إلى استدعاء سفيرته لدى برلين زهور العلوي للتشاور حول موقف ألمانيا الذي وصفه بـ”السلبي” من اعتراف الولايات المتحدة بالسيادة المغربية على الصحراء و”محاولة استبعاد الرباط من الاجتماعات الإقليمية حول ليبيا”.
وأكد هشام معتضد الأكاديمي والخبير المغربي في العلاقات الدولية والاستراتيجية أن إطلاق الحوار الجديد بين المغرب وألمانيا يندرج في إطار تنسيق الجهود بين البلدين لمواجهة التحديات المستقبلية بعد مراجعة ألمانيا لمواقفها المتذبذبة تجاه المغرب، موضحا أن نقطة الخلاف التي حالت دون استمرار العلاقات المتميزة بين البلدين كانت بالأساس مرتبطة بموقف الحياد السلبي الذي تبنته إدارة أنجيلا ميركل في ما يتعلق بملف الصحراء المغربية.
واعتبر معتضد في تصريح لـه أن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وتبادل الإشارات السياسية الايجابية على أعلى مستوى يشكلان فرصة لإطلاق منصة صلبة لبناء مشاورات دبلوماسية وسياسية مسؤولة وذات توجه موحد يحترم ثوابت البلدين بعيدا عن المواقف الظرفية.
وسبق لوزارة الخارجية الألمانية أن أصدرت بيانا في الثالث عشر من ديسمبر أشادت فيه بالمغرب باعتباره “حلقة وصل مهمة بين الشمال والجنوب” سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا، وأشارت برلين إلى العلاقات الثنائية العريقة التي بدأت منذ استقلال المغرب عام 1956.
واستمرارا في طي صفحة الخلاف الثنائي، ستعود سفيرة المغرب في برلين زهور العلوي بعدما غابت عن موقعها لأشهر احتجاجا على “سياسات ألمانيا العدائية ضد المصالح العليا للمغرب”.
بدورها اقترحت برلين اسم سفيرها الجديد في الرباط، ويتعلق الأمر بروبرت دولغر الذي كان يشغل منصب مفوض الخارجية الألمانية في أفريقيا، وهو أحد الخبراء بخبايا القارة الأفريقية، وهو الاقتراح الذي لا يزال ينتظر موافقة الرباط عليه.
وبمناسبة دخول السنة الجارية أرسل الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير رسالة إلى العاهل المغربي الملك محمد السادس شدد فيها على أن مبادرة الحكم الذاتي هي مساهمة مهمة وذات مصداقية، داعيا فيها العاهل المغربي إلى زيارة ألمانيا من أجل إرساء شراكة استراتيجية بين البلدين.
وفي الإطار ذاته سبق أن هنّأ الملك محمد السادس رئيسَ ألمانيا الاتحادية فرانك فالتر شتاينماير بمناسبة إعادة انتخابه، مؤكدا حرصه على إعطاء نفس جديد للعلاقات بين البلدين بناء على مبادئ الصداقة والتعاون، والمساهمة في استتباب الأمن والاستقرار والرخاء في الفضاء الأورومتوسطي.
وفي بيان مشترك صدر حول اللقاء بين وزيري خارجية البلدين، رحب الطرفان بـ”تبادل الرسائل بين الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير والملك محمد السادس، والتي أكدا فيها على المصلحة المتبادلة في تأسيس شراكة جديدة بين البلدين”.
وأشار هشام معتضد إلى أن التعاون المستقبلي بين الحكومة المغربية ونظيرتها الألمانية في ظل المتغيرات التي تطبع المنطقة سيساهم في خلق نوع من التوازنات الجيوسياسية، خاصة وأن ألمانيا في حاجة ماسة إلى المغرب كشريك سياسي قوي وذي مصداقية في المنطقة الشمالية لغرب أفريقيا ونافذة استراتيجية ذات وزن اقتصادي وتاريخي على مستوى القارة الأفريقية.
وأدت التوترات الدبلوماسية غير المسبوقة والمتصاعدة بين المغرب وألمانيا ابتداء من مارس 2021 إلى تعليق التعاون السياسي والثقافي وتأجيل المشاريع الاقتصادية المشتركة الكبرى في وقت سابق من هذا العام.
وكان سوء التفاهم العميق مع ألمانيا منصبّا بشكل أساسي بشأن قضية الصحراء المغربية، حيث أن موقف برلين أثار غضب المغرب عندما دعت (رغم أنها ليست عضوًا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة) إلى اجتماع عاجل للمجلس لمواجهة قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بعد اعتراف إدارته بسيادة المغرب على الصحراء.
وزاد من حدة التوتر دعم السلطات الألمانية لمحمد حاجب المغربي الذي سبق أن أدين في الرباط بارتكاب أعمال إرهابية، والذي استخدم ألمانيا كقاعدة خلفية لمهاجمة المؤسسات المغربية خلال السنوات العديدة الماضية.
وقبل ثلاثة أيام من بيان الخارجية الألمانية أعلن حاجب انسحابه من أي نشاط سياسي، ويعتقد المراقبون أن هذا لم يكن مصادفة، بل علامة أخرى على تحرك ألمانيا في اتجاه تهدئة التوترات مع المغرب.
ومن الواضح أن تراجع برلين تمليه الظروف الجيوستراتيجية في المنطقة والتي تحتم عليها الرهان على المغرب كشريك استراتيجي مهم للحفاظ على مصالحها وتطوير فعالية دبلوماسيتها في منطقة شمال وغرب أفريقيا لتعزيز مكاسبها السياسية والاقتصادية.
ويعد المغرب بوابة واعدة للأعمال التجارية في القارة الأفريقية مع بنية تحتية قوية للاستثمار والتجارة الأفضل في أفريقيا، وهو ما يفسر اهتمام ألمانيا بمواكبة مصالحها بالقارة الأفريقية.
وأكد الدبلوماسي الألماني روبرت دولغر والذي يتوقع أن يكون السفير القادم في الرباط في حوار له مع دويتشه فيله “ما زلنا بعيدين عن استنفاد إمكاناتنا في غرب أفريقيا وتمثل التجارة الخارجية الكاملة مع المنطقة حوالي واحد في المئة من التجارة الخارجية الألمانية، ولهذا تعمل الشركات الألمانية مع شركاء أفارقة ومنهم المغرب على اكتشاف الإمكانات الهائلة”.
وتتمتع ألمانيا والمغرب بالكثير من المزايا التي يمكن للطرفين الاستفادة منها من حيث الطاقة المتجددة وصناعة السيارات والرعاية الصحية، فضلاً عن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، لهذا عبّر السفير المستقبلي لألمانيا بالرباط عن أمل بلاده في أن تتمكن في المستقبل من استخدام أدوات جديدة لمنح الشركات الألمانية مزيدا من الدعم لكسب موطئ قدم في غرب أفريقيا، قائلا “ففي غضون 20 إلى 30 عاما سيبلغ عدد سكان غرب أفريقيا حوالي مليار شخص. إنها سوق ضخمة لا يمكننا تجاهلها. علينا الوصول في الوقت المحدد”.