لو أن أبواب الهجرة فُتحت أمام الجزائريين، فلن يبقى أحد. ولسوف يتعين على الرئيس عبدالمجيد تبون أن يطفئ النور من خلفه.
هذه ليست نكتة. إنها مأساة تتحدث عنها الصحافة الجزائرية كل يوم تقريبا. أطباء ومهندسون ومهنيون يحاولون بكل السبل أن يهاجروا من البلاد التي أنفقت على تعليمهم المليارات، إلا أنهم ضاقوا ذرعا بالظروف التي يعيشونها.
ما هو السبب، يا ترى؟
هذه البلاد التي كان خيرةُ شبابها يقتحمون غمار الموت من أجل حريتها واستقلالها، صار شبابها يسعون للهرب منها. في العام الماضي وحده فُقد 400 جزائري وهم يركبون عباب البحر للوصول إلى الشاطئ الأوروبي. وهم لو كانوا يواجهون الاستعمار الفرنسي، لكان هو الذي هرب أسرع وأبكر مما فعل.
فما هو السبب، يا ترى؟
بلد يعرفُ أنه غني. ولكن غناه لم يُغنِ أحدا إلا بطانة الترهل والفساد في مؤسسة السلطة المدنية والعسكرية.
قبل اندلاع أزمة كورونا قالت “الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان” إن هناك ما لا يقل عن 15 مليون جزائري، أي نحو ثلث عدد السكان، يعيشون تحت خط الفقر. وهو رقم، لو صح مفزع. فماذا تتوقع لهذا الرقم أن يكون الآن؟
السلطات تقر، على أيّ حال، بأن عدد الذين يعيشون تحت خط الفقر يبلغ 2.5 مليون نسمة. ولكن حتى هذا الرقم مفزع.
فما هو السبب، يا ترى؟
الأسبوع الماضي أعلن عن توجه 1200 طبيب متخصص لمغادرة البلد، بعد نجاحهم في امتحانات التأهيل التي تطلبها السلطات الفرنسية الجامعية الطبية.
وهؤلاء ليسوا خبرات ضائعة فقط. إنهم مال ضائع. وسنوات عمر ضائع، في بلد لا يمكنه أن يرى خبراته ترحل عنه، من دون أن يشعر أنه هو نفسه ضائع.
فما هو السبب، يا ترى؟
السبب هو الفشل السياسي والإداري. السبب هو أن نخبة السلطة هي ذاتها نخبة الفساد. والسبب هو أن البلاد وقعت تحت قبضة “استعمار وطني”، لا سبيل حتى لمقاومته. ولو خرجت تظاهرات احتجاج تستمر عاما أو عامين، فإن كل ما يمكن توقعه من تلك النخبة هو أن تبدل أحجارا بأحجار، أو تتبادل الكراسي.
سوى أن الكراسي ليست مما يغري الوطنيين الجزائريين. ليست هذه هي القضية بالنسبة إليهم.
واحدة من “جميلات الجزائر”، جميلة بوباشا، المجاهدة التي حكمها الفرنسيون بالإعدام وهبّ العالم لنجدتها، رفضت تعيينها في مجلس الشيوخ، تحت قائمة “الثلث الرئاسي” التي أصدرها الرئيس عبدالمجيد تبون في الخامس عشر من فبراير الجاري. هي نفسها سمعت بالنبأ عن طريق التلفزيون. لكي ترى كيف يكون الاستخفافُ استخفافا. فالتعيين، باعتباره أعطية من عطايا الحاكم بأمر نفسه، لا تسبقه استشارة.
لم تقل رفيقةُ جميلة بوحيرد وجميلة بوعزة وباية حسين، شيئا في الرفض. قالت “خدمت بلدي مع إخوتي وأخواتي بصفتي مجاهدة وعدت إلى حياتي كمواطنة وأود أن أبقى كذلك”.
الجزائريون هم الذين استقبلوا الرفض بما يعنيه. فمقاطعة النظام، والانتخابات، وأهل الكراسي، أصبحت وجها من وجوه المقاومة الممكنة.
حاول الرئيس تبون في الوقت نفسه، أن يشتري شباب الانتفاضة ضد سلطة الفساد، بأن قرّر منحهم إعانة بطالة، تبلغ قيمتها نحو 100 دولار، أو نصف الحد الأدنى للأجور، اعتبارا من الشهر المقبل.
نسبة البطالة، حسب الإحصاءات الرسمية تبلغ 11.5 في المئة. ولكنها بحسب تقديرات المنظمات الأهلية تزيد عن 20 في المئة، لاسيما بعد أن أدت مصاعب وباء كورونا إلى فقدان 51 ألف وظيفة بسبب إغلاق العديد من المصانع في العام الماضي وحده.
بيانات سابقة لوزارة الإحصاء والاستشراف قالت إن نسبة البطالة فاقت 13 في المئة في العام 2020، وبلغت 23 في المئة عند خريجي الجامعات، و27 في المئة وسط الشباب.
الكارثة تكمن في أن ثلث شباب الجزائر، وغالبيتهم متعلمون وخريجون، لن تُغنيهم المئة دولار في شيء. ولن تحل لهم المشكلة، لا على المستوى الاجتماعي ولا على المستوى الاقتصادي، ولن تُوقف رغبتهم بالهجرة من بلاد لم يعد لهم فيها ما يأسفون عليه.
معونة البطالة سوف تكلف 0.75 مليار دولار، في بلد يحصل على عائدات سنوية من صادرات النفط والغاز تزيد على 50 مليار دولار.
ولكن ليست المعونة هي الهزيلة. الهزيل هو أن البلاد لا تستثمر عائدات النفط في ما يؤدي إلى خفض البطالة والقضاء على الفقر ومعالجة مشكلات سوء ظروف العمل، وانخفاض الأجور.
لا توجد حركية في الاقتصاد، تستنهض الإمكانيات وتوفر الفرص وتغني عن الهرب. الاقتصاد ميّت، في بلد حوّله الركود السياسي إلى جثة.
أحد أبرز الأمثلة في البلاد، هو أن فيها أزمة سكن وأزمة بطالة. وهما أزمتان لا تجتمعان إلا على فشل في الإدارة وسوء التخطيط.
الاستثمار في مشاريع البناء والبنية التحتية، لا يكفل امتصاص طاقة عمل ضخمة، من مختلف التخصصات والمهن، فحسب، ولكنه ينطوي على عائد ضخم أيضا.
المنزل الذي تبنيه بعشرة عمال، يشكل قيمة سوقية، تعادل أو تزيد عن تكاليف التشغيل. بمعنى أن الاستثمار نفسه لن يُستهلك، ولن يكون مالا ضائعا. بطريقة أو أخرى، فإنه سيعود إلى الخزانة، أكثر ممّا كان.
انظر إلى الأمر من جهة السعة التي تستثمر فيها الصين مئات المليارات من الدولارات في دول فقيرة في مشاريع “الحزام والطريق”. وقل لي كيف سوف تسترد هذه البلاد أموالها.
سوف تكتشف، أول ما تكتشف، أن نخبة السلطة في الجزائر تتعامل مع موارد البلاد باستخفاف شديد على الأقل، وهي توفر لنفسها منافذ للفساد، لكي تدفع بتلك الموارد إلى الضياع. سوف تكتشف أيضا، كيف أن المصنع في الجزائر لا يعمل ولا يدار من أجل توفير سلعة وعائد، وإنما للتغطية على نظام بيروقراطي يستهلك الموارد ولا يضيف إليها. حتى ليتحول العمل نفسه إلى مجرد بطالة مقنّعة.
العقلية الإدارية في الجزائر ما تزال على ذات الطبيعة السوفياتية التي انهارت قبل أكثر من ثلاثين عاما. وبرغم أنها انهارت في الجزائر نفسها ثلاث مرات على الأقل، منذ الاستقلال حتى الآن، إلا أن النخبة الحاكمة آثرت أن تتبادل فيما بينها الكراسي، من دون أن تتغير الأسس التي ظلت تدفع البلاد إلى الفقر، حتى أصبح مهندسوها النفطيون يبحثون عن عمل في دول الخليج.