يتقاسم الرئيسان الجزائريان الراحل عبدالعزيز بوتفليقة وعبدالمجيد تبون ورقة مشتركة تتمثل في تزامن قدومهما مع أزمات مفصلية عرفتها وتعرفها الجزائر، فالأول كان قدومه في أوج ذروة حرب أهلية راح ضحيتها ربع مليون جزائري، والثاني تزامن مع أزمة سياسية عصفت بسلطة حاكمة ظلت إلى حين تمثل قدرا محتوما على الجزائريين، لكن بوتفليقة برصيده وحنكته السياسية والدبلوماسية استطاع وقف حمام الدم ولو بمقاربة لم ترض البعض، بينما الثاني لا يزال يراوح مكانه تجاه أزمة سياسية تسير إلى المزيد من الاحتقان والتعفن.
وإذ اجتمع الرجلان في ظروف متشابهة أتت بهما إلى هرم السلطة، وقد تكون كذلك في رحيلهما عنها، فكما انتهى بوتفليقة إلى التنحي عن السلطة تحت ضغط الحراك الشعبي، فإن نفس الأسباب مازالت قائمة في ظل الاحتقان المتفاقم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وأن نفس الآلة (الجيش) التي أطاحت ببوتفليقة لن يوقفها شيء عن تكرار المسألة مع تبون لو تطلّب الأمر ذلك.
m إذ كانت فواعل الحراك الشعبي قد أفرزت نحو 60 مبادرة سياسية بغية الخروج من المأزق، فإن الملاحظ في الوقت الراهن هو تلاشي كل الخرائط والأفكار والمبادرات السياسية
وإن استفاد مَقدم بوتفليقة من تراكمات الأزمة الأمنية التي عصفت بالبلاد، وصنع من شخصيته رجل إجماع لدى النخب السياسية والرأي العام، رغم المطبات التي اعترضت طريقه في بداية المشوار، لكن بفضل فطنته وحنكته السياسية حوّل انسحاب المنافسين الستة له في انتخابات أبريل 1999، إلى استفتاء شعبي عن برنامجه السياسي عندما تقدم باستفتاء للجزائريين بعد أشهر قليلة حول “الوئام المدني”، وهو الوتر الحساس الذي لعب عليه لأنه كان يدرك أن الجزائريين مستعدين للتنازل عن أي شيء من أجل عودة الأمن والاستقرار إلى ربوع البلاد.
لكن الرئيس تبون الذي جاء بدوره في ظروف استثنائية بسبب تداعيات الحراك الشعبي، ورغم حيازته على دعم الوعاء التقليدي للسلطة، إلا أن صفة رجل الإجماع غابت عنه، فهو في نظر المعارضين والحراك الشعبي يعتبر جزءا من الأزمة وليس حلا لها. وعكس بوتفليقة الذي مدّ يده للإسلاميين وللمتشددين، فإن تبون لا يزال يحجم عن الانفتاح على الطرف الآخر، وفوق ذلك انخرط في ممارسة سياسة القبضة المشددة على هؤلاء. وحتى شعبيته المهزوزة منذ الانتخابات الرئاسية، لم يعمل على ترميمها بخطوة ما لتغيير موقف جزء معتبر من الرأي العام.
وإذ تحولت ورقة الإجماع إلى تقليد سياسي في البلاد أسوة بالرئيس الراحل، فكثيرا ما تحولت استحقاقات مؤسساتية إلى تزكية المرشح الواحد على حساب أدبيات التعددية والديمقراطية، مما أفضى إلى نمط أحادي في ثوب الجمهورية الديمقراطية، ولذلك تجاوزت المطالب الشعبية مسألة رجل الإجماع لقطع الطريق على أي مشروع أحادي سواء لتبون أو لغيره، وباتت تصر على التغيير السياسي الشامل في نمط الحكم والتداول على السلطة.
ولو أن شخصية تبون المتوترة تفتقد إلى صفة الإجماع داخل الشارع الجزائري والنخب السياسية ودوائر السلطة، ولذلك لا يعوّل عليه لأن يقود قاطرة الجزائر إلى بر الأمان وتكرار سيناريو بوتفليقة خاصة في ظل البؤر المشتعلة داخليا وخارجيا والأزمات المتراكمة، وهو ما يتطلب مراجعة ضرورية للمنظومة السياسية بشكل يسمح بإفراز شخصية كاريزمية تبدع في وضع وتنفيذ برنامج شامل لإخراج البلاد من المأزق.
ورغم ما اعترى الحراك الشعبي من اختراقات وتوظيف سياسي وأيديولوجي لمختلف الدوائر النافذة، فإن حفاظه على أفكاره الأساسية القائمة على التغيير الشامل ومشاركة الجميع في وضع مخارج الأزمة المتكلسة، فإنه ظل يرفض في كل مرة انفراد أشخاص أو مجموعة به، رغم أن متابعين ومحللين عابوا عليه عدم فرز قيادة تمثله أو تتفاوض باسمه أو تستلم المأمورية من السلطة إذا قررت التنحي.
ومع ذلك ظل خيار المبادرة السياسية العقلانية والواقعية، يمثل المنفذ الأمثل للخروج من المأزق المستعصي، في ظل تمسك السلطة بمواقعها، وإصرار المعارضة والحراك على مطالبها الراديكالية، لقناعة راسخة لدى هؤلاء بأن مرور البلاد إلى تجديد مؤسساتها وهياكلها لا يعني نهاية الأزمة المعقدة، فنفس الظروف والأسباب التي فجرت الشارع الجزائري في فبراير 2019، مازالت قائمة، وفوق ذلك فإنه إذا كانت تلك الانتفاضة أثارت العالم بسلميتها، فإن المخاوف الآن تتوجس من الانفجار العنيف الذي لا يعلم أحد نهايته.
لكن الحاصل منذ انتهاء السلطة من الاستحقاقات الانتخابية، تسود المشهد السياسي حالة من الجمود والصمت المثير، رغم الجدل الصامت حول وضع حقوق الإنسان والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة، وإذ تمكنت السلطة من بسط يديها على الشارع بمساعدة الجائحة الصحية، فإن الأنظار تتوجه بخيبة إلى النخب السياسية والشخصيات المستقلة نظير تنازلها كلية عن أداء دورها في خلق التوازن الطبيعي في الساحة السياسية.
وإذ كانت فواعل الحراك الشعبي قد أفرزت نحو 60 مبادرة سياسية بغية الخروج من المأزق، فإن الملاحظ في الوقت الراهن هو تلاشي كل الخرائط والأفكار والمبادرات السياسية، وحتى النقاشات التي كانت تدور في مختلف الدوائر اختفت تماما بشكل لم يسجل حتى في زمن الحزب الواحد حسب متابعين مخضرمين.
وباستثناء تدوينات نادرة على شبكات التواصل الاجتماعي لقادة أحزاب، فإن المشهد السياسي في البلاد يعيش حالة شلل غير مسبوقة، وهو ما فاقم من حالة الخيبة الشاملة التي تجلت مؤخرا في هجرة جماعية لـ1200 طبيب نحو فرنسا، الأمر الذي يستوجب صحوة من النخب السياسية والمثقفة، لبلورة خارطة طريق ترسم معالم بلد ثبت أنه لا أحد بإمكانه أن يتفرّد به أو يزعم أنه رجل إجماع، وأن الحل يكمن في مشاركة الجميع دون إقصاء أو تهميش.