لا تصنع الأوهام سياسة، خصوصا سياسة لدولة يُفترض أن تحترم نفسها، دولة تعتبر أنّ لديها تاريخا نضاليّا ونموذجا ناجحا صالحا للتصدير. هذا ما لم يستطع النظام الجزائري فهمه أو استيعابه في أيّ وقت… أي منذ قيامه في العام 1965 حين انقلبت المؤسسة العسكريّة على أحمد بن بلة أول رئيس بعد الاستقلال في العام 1962.
لم يكن بن بلة شخصا طبيعيا على علم بما يدور في المنطقة والعالم وداخل الجزائر نفسها. كان سياسيّا هاويا ما لبث عسكري شبه محترف، مثل هواري بومدين، أن تخلّص منه بسهولة. أقام بومدين نظاما أمنيا ذا أفق محدود لا يعرف معنى إقامة دولة حديثة منفتحة على العالم خالية من عقد الماضي، بما في ذلك عقدة فرنسا.
لم يدرك بومدين، على وجه الخصوص، أنّ أيّ دولة مثل الجزائر لا تستطيع البقاء أسيرة النفط والغاز وأن في استطاعتها تنويع اقتصادها وتقديم نفسها للعالم كدولة حديثة لا علاقة لها بالشعارات الفارغة التي لا تفيد الجزائريين في شيء بمقدار ما أنّها تجعلهم يترحّمون على الاستعمار الفرنسي وأيّامه وعلى المؤسسات التي بناها في الجزائر. هذه المؤسسات هي كلّ ما بقي من مظاهر الحضارة في الجزائر، اللهمّ، إلّا إذا كان حكم الأجهزة والمؤسسة العسكرية، وما يرافق ذلك من قمع، يعتبر في أيّ بلد كان مظهرا حضاريا.
في ضوء غياب ما لدى النظام الجزائري ما يقدّمه إلى محيطه والعالم، نرى طبيعيّا تعلّق النظام بالأوهام أكثر فأكثر. نراه يطلق الأوهام، من نوع شنّ أداة اسمها جبهة “البوليساريو” هجمات على القوات المغربيّة في الصحراء. ليست المسألة سوى حملة دعائية لا يصدّقها سوى السذّج الذين يرفضون الاعتراف بأنّ العالم تغيّر وأنّ لا وجود في الأصل لقضيّة اسمها الصحراء. كلّ ما في الأمر أن الجزائر اختلقت، بفضل ما كانت تمتلكه من أموال النفط والغاز، قضيّة الصحراء التي ليست تاريخيا سوى أرض مغربيّة.
كلّما مرّ يوم يزداد اعتراف العالم بأنّ قضيّة الصحراء قضيّة مفتعلة وأنّها قضيّة بين المغرب والجزائر التي قررت منذ العام 1975 شنّ حرب استنزاف على الجار المغربي مستخدمة أداة اسمها جبهة “البوليساريو”. هذه الجبهة مقيمة في الجزائر وليس في أيّ مكان آخر والمخيمات التي يقيم بها صحراويون في تندوف ليست سوى مخيمات أُقيمت لرهائن مطلوب المتاجرة بهم ليس إلّا. لو كانت لأيّ صحراوي موجود في تندوف حرّية الخيار لكان عاد إلى الأقاليم الصحراويّة في المغرب وعاش حياة كريمة، كأيّ مواطن مغربي يتمتع بكلّ حقوقه، بدل حياة الذلّ التي يعيشها الآن.
تعكس قضيّة الصحراء المفتعلة عمق الأزمة التي يعيش في ظلّها النظام الجزائري. صحيح أنّ هذا النظام انتعش أخيرا بسبب ارتفاع سعر النفط والغاز، لكنّ الصحيح أيضا أنّ المشكلة تبقى تراوح مكانها. إنّها مشكلة نظام جزائري، تسيطر عليه المؤسّسة العسكرية، نظام غير قابل للحياة لم يستطع يوما التصالح مع الواقع ومع الجزائريين أنفسهم.
في بلد، يدّعي فيه رئيس الجمهوريّة عبدالمجيد تبون أنّه يمتلك أفضل نظام صحّي في المنطقة، لم يجد هذا الرئيس مستشفى يذهب إليه سوى في ألمانيا لدى إصابته بداء “كورونا”
لم يستطع هذا النظام ممارسة لعبة جديدة تجعله قادرا على التصالح مع الجزائريين أوّلا. من المستغرب فعلا أن يكون بلد يمتلك عددا لا بأس به من الدبلوماسيين الناجحين غارقا في الدوران على نفسه بدل الخروج إلى رحاب العالم، مع ما يعنيه ذلك من تصالح مع الواقع.
في حال كان النظام في الجزائر مصرّا على أن ليس لديه ما يفعله غير متابعة الهرب من أزمته الداخليّة إلى خلق مشاكل خارج حدوده، سيكتشف عاجلا أم آجلا أنّ مثل هذه السياسة المبنيّة على الأوهام سترتدّ عليه.
في نهاية المطاف، الواقع شيء والأوهام شيء آخر. الواقع يقول إنّ الولايات المتحدة نفسها اعترفت بمغربيّة الصحراء. الواقع يقول أيضا إنّ كلّ المحاولات الهادفة إلى ابتزاز المغرب بقيت محاولات فاشلة مثلما فشل كلّ ما سمّي “الثورات” التي قام بها النظام الجزائري. فشل في ثورته الزراعيّة وفشل في ثورته الصناعيّة وفشل في التعريب. لم يتعلّم الجزائريون العربيّة ونسوا الفرنسيّة.
في بلد، يدّعي فيه رئيس الجمهوريّة عبدالمجيد تبون أنّه يمتلك أفضل نظام صحّي في المنطقة، لم يجد هذا الرئيس مستشفى يذهب إليه سوى في ألمانيا لدى إصابته بداء “كورونا”.
في بلد يسعى إلى عقد قمّة عربيّة، لا يجد وزير الخارجية رمطان لعمامرة، الذي يقول الكثيرون إن لديه خبرة دبلوماسية، مكانا يشكو فيه من علاقات أقامها المغرب مع إسرائيل، غير مصر. يبدو أنّه فات لعمامرة أنّ مصر مرتبطة بمعاهدة سلام مع إسرائيل وقعت في آذار – مارس منذ العام 1979، أي منذ 43 عاما عدّا ونقدا.
كانت الجزائر مع البعثين السوري والعراقي ونظام العقيد معمّر القذّافي، السعيد الذكر وغير المأسوف عليه، في مقدّمة من دعوا إلى مقاطعة مصر بعد توقيعها معاهدة السلام مع إسرائيل. ماذا كانت النتيجة؟ كانت هناك عودة عربيّة إلى مصر وعودة جامعة الدول العربيّة إلى القاهرة. مؤسف أنّ النظام في الجزائر لم يتعلّم شيئا من تلك التجربة ومن أن المزايدات، بما في ذلك المتاجرة بالقضيّة الفلسطينيّة، لا تقدّم ولا تؤخّر.
يريد النظام الجزائري حاليا استضافة القمّة العربيّة المقبلة. أفهمته جامعة الدول العربيّة أنّ ذلك مستحيل في الوقت الحاضر. اقترح النظام موعدا جديدا مطلع نوفمبر المقبل بدل الشهر المقبل مارس. ليست المسألة مسألة استضافة القمّة العربية. المسألة مسألة تصالح النظام الجزائري مع الواقع والتوقف عن ترويج أخبار لا علاقة لها بالحقيقة عن اشتباكات في الصحراء المغربية بين “البوليساريو” والجيش الغربي. لو كانت هناك أيّ صحّة لمثل هذا الأنباء، لكانت الأمم المتحدة أعلنت عنها. الصحراء المغربيّة مؤمنة، وقد آن أوان اعتراف النظام الجزائري بأنّ القضية مفتعلة من ألفها إلى يائها وأنّه وراء افتعالها… بسبب معاناته من عقدة المغرب.
هل يمتلك هذا النظام ما يكفي من الشجاعة للإقدام على مثل هذه الخطوة؟ هذا هو السؤال الكبير الذي يعني أوّل ما يعني استعدادا لدى نظام أمني على التعاطي مع الواقع بدل الهرب منه ومتابعة العيش في ظلّ إنكار أنه في مكان من العالم فيما الشعب الجزائري في مكان آخر. هل يتصالح النظام مع شعبه يوما؟